البَداهة والمُسلّمات.. بناء إنسانية مثالية.. الجزء (5)

خاص “المدارنت”
يتمثل الانطلاق الأساسي لبناء إنسانية مثالية داخل منظومة مؤسساتية مسؤولة، شرط تحقق الايمان، الذي يتحدد بامرين هامين: أولهما الإيمان بوحدانية الخالق العظيم.
ثانيهما، الإيمان بالرسالات السماوية، ونخصّ خاتمة الرسالات، رسالة محمد (ص) العربي الأمي. كونها تضمنت كامل التشريع ومحفوظة إلى الأبد، منسجمة ومتناسقة لكل زمان ومكان. مع الإشارة إلى أن التمسك بهما، كجوهر ايماني، يوجه حياة الفرد الإنساني الاجتماعي نحو الكمال
ويحقق في ذاته معرفة الحقيقة والتي تتمثل بالوحدة البشرية، رغم تعدد مظاهر الصراع والنزاع التي لا تهدأ ولا تسكن. ولكن الإنسانية المثالية إنما تتجاوز، التعدد والتنوع والاختلاف، بين البشر، بكل ما يكونون من طبقات ومذاهب وطواءف وشعوب وامم.. وعليه فالانسانية دائمة السعي إلى تحقيق المثل العليا بين عموم البشر وتحفظ لها الحقوق والكرامات.
لقد جاء الإسلام ليقيم المجتمع الفاضل على مجموعة من القواعد والأسس، الجوهرية والثابتة، تبدأ بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، مرورا بالحق والعدل والايثار والتعاون، إلى غير ذلك من المحامد الانسانية، من قيم ومثل. التشريع الإسلامي نظام ،كامل متكامل، جاء لينظم الحياة الإنسانية، من خلال بيان علاقة الفرد بربه، بمجتمعه، بأخيه الإنسان، وبكل ما يحيط به من عوالم واكوان. ولكي تستقيم الأمور كما أرادها الاسلام، وتلتزم بتشريعاته الشاملة، لا بد من منظومة مؤسساتية مسؤولة في التوجيه والإرشاد، في التربية والتعليم، بدء من الأسرة إلى الامة، مرورا بالمدرسة والمجتمع ايضا، لأنها من البداهة أن تكون القدوة والمثال، في توجيه الفرد وتحويله من وليد انساني فطري الى عضو متكامل مدرك وفاعل داخل مجتمع محدد، كونه كائن مفطور على الاجتماعية.
يعني أن الفطرة الانسانية قابلة للتشكل والنماء، جراء الإرشادات والتوجيهات، فإن تحقق السليم، فيتعاظم حسن فاعليتها الاجتماعية، بناء لتلك العملية التنفيذية الانفعالية في التسديد والتصويب، استنادا لقواعد تطبيق التشريع الإسلامي، الذي حدده انبعاث الرسول (ص) والذي أحدث منعطفا تاريخيا في تحقيق الإنسانية وشمول أهدافها، فحوّل الأمور الحياتية الضيقة، لدى الناس، من العائلة والطبقة والقبيلة والمنطقة.. الى سماء العالمية، بدعوته الشاملة وتكامل مقاصده، ثم نقل المجتمعات البشرية من عزلتها وصراعاتها وانقساماتها، إلى وحدة الأسرة البشرية وتعاونها فيما بينها، من أجل بناء حضارة إنسانية عالمية. وهكذا جاء الإسلام، ولأول مرة، محققا فكرة المجتمع الإنساني الواحد.
فشرّع الإسلام فكرة لزوم التعايش السلمي على أسس من الإخاء العالمي، من دون تمييز ولا تمايز. ثم ترك باب المفاضلة مفتوحا لدى الجميع. إذ لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى. البشرية كلها، من نسل وذرية آدم. واحبكم إلى الله اتقاكم.
هكذا ارتقت وعلت مفاهيم الانسانية، وتجسدت في روحية التشريع الإسلامي، انطلاقا من مما حمله من مبادىء وأصول عامة. إنه الدين الذي ارتضاه الله تعالى للعالمين، لقوله تعالى: “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين”. آل عمران/ 85، لأنه، كدين، يتضمن ويفرض تحقيق أسس المحبة والمنفعة المتبادلة،في العمل والتعامل، فلا ضرر ولا ضرار.
بناء لذلك، فانسانية الإسلام وما تمثله من نجاحات حضارية، ومن متانة علاقات بشرية، إنما ترفع حواجز التمايز، بين الرئيس والمرؤوس، بين الغني والفقير، بين الحر والعبد.. فتوحد الشعور لدى الجميع، بانهم أسرة واحدة، يشتركون بالمسؤولية، أي كل فرد مسؤول عن مؤسسته، حسب مكانته وطاقته ، وهذا الامر، يعتبر قمة نجاحات المؤسسات واستمرار عطائها الإنتاجي الايجابي، وايضا، فإن الاحساس بالجماعية الفردية، تحفظ للفرد كرامته وتصون شخصيته. “فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا”.
والله تعالى قد سخر البشر بعضهم لبعض: “وليتخذ بعضهم بعضا سخريا..” الزخرف/ 32، فالمسؤولية ،عموما، والمسؤولية التي تخص المنظومة الإدارية، على مستويات الوطن، إنما هي علم قائم بذاته، له مبادئه واصوله وقواعده التي ظهرت جليا في النظام الإسلامي العام، من خلال تطبيقاته الواقعية الموضوعية، وبعيدة كل البعد عن التنظير الكلامي الفارغ. لقوله تعالى: “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون “. مستندين على ذلك التاريخ الذي سطر ما حققه النظام الإسلامي الانساني، فتوحات وغزوات وتنظيم وادارات ومؤسسات وثبات حكمة قرارات.
لقد غرس الإسلام بذور القيم وجعلها منبتًا لكل رقي حضاري انساني، ركيزتها النفس الإنسانية
آخذة بما تتطلب من تزكية، محورها القدوة الحسنة الصالحة إشباع الحاجات النفسية الاجتماعية. لقوله تعالى: “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن..”، النحل/ 125، وقوله تعالى: “وتعاونوا”. إن ما أراد به الإسلام وتشريعاته، تكوين الاخوة الإنسانية واعتبرها ضرورة حتمية ملحة،داخل حياة الشعوب والمجتمعات، ويتجلى ذلك التحقق في أحضان المنظومات العامة للدول، وبين عناصر وأعضاء المؤسسات والإدارات الوطنية.
أن كل ما أراده الإسلام من تحقق الإنسانية الشاملة، إنما يعتبر اساس واصل لبتاء علم الأخلاق والسلوك، مسرحه خشبة التفاعل الاجتماعي والمؤسساتي بين عناصر مكوناتها. لذاك اعتنى الإسلام بالانسانبة، انطلاقا من تكريم الانسان الفرد، إضافة لما حدده من تطبيق للمباديء والأصول، كي تكون مصدرا وجوهرا في تدبير شؤونه الحياتية، وتحقق المصالح والمنافع العامة، ضمن تحقق القيم الأخلاقية. لقوله تعالى: “إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق “.
وهنا، يمكننا التاكيد على كل من حقق في نفسه وعمل بصفات ومبادئ وأصول الإسلام سيكون حتما وبلا شك، مسؤولا ناجحا ومنتجا وراقيا، بعد تدريب إلى ما يحتاج من أصول الاتصال والتواصل والإقناع، لأنها صفات وقواعد مكتسبة، تحتاج إلى ممارسة تدريبية ومثابرة.