مقالات

المتفيهقون!

وليد حسين الخطيب/ لبنان 

“المدارنت”..
“الفقير يعمل والغنيّ يستغلّه، والجندي يدافع عن الاثنين والمواطن يدفع للثلاثة، والكسول يعتمد على الأربعة، والسّكّير يشرب من أجل الخمسة، ومدير البنك يسرق الستة، والمحامي يغشّ السبعة، والطبيب يقتل الثمانية، وحفّار القبور يدفن التسعة، والسياسي يعيش على حساب الجميع”؛ هذه نظرية الكاتب والخطيب الروماني ماركوس توليوس سيسرو أو “شيشرون” المولود في العام 106 ق. م، الذي قال عنه المؤرّخ الفرنسي والمتخصّص في الأدب الكلاسيكي واللاتينية الكلاسيكية بيار غريمال (Pierre Grimal): “هو الجسر الذي عبرَه وصلَنا جانبٌ من الفلسفة اليونانية”.
لا شك في أن الأزمات كلها التي يعيشها لبنان ستستمرّ وستتفاقم، نتيجة الاستغلال وعدم شبع الزعماء والسياسيين… من أي شيء فيه مصلحة وإن كان بطرائق ملتوية فـ”الغاية تبرّر الوسيلة”. هذا لا يعني أنّ الشعب يُستَغَلُّ ولا يَستَغِلّ، بل هو مَن أسهم ويُسهم في وصول المستغلّين إلى الحكم، حيث إنّه يختارهم بحسب ما تهوى النفس.
لذا، فإن الحال التي وصلنا إليها، كانت بفعل فاعلٍ مع سبق الإصرار بتحالف الشعب المستغلّ والفاسد مع الطبقة السياسية التي تشبهه. إذًا، على كلِّ نفسٍ ما اكتسبَتْ. قلنا اكتسبت ولم نقل كسبت، حيث إنّ الفعل “كَسَبَ” على وزن “فَعَلَ”، ومصدره “كَسْب” على وزن “فَعْل”، والكسْبَ فعل سهل وبسيط من دون جهد ولا تكلّف، وصاحبه متمرِّس فيه، ويكون عادة في الخير؛ أما “اكتسب” فهو على وزن “افتعل”، ومصدره “اكتساب” على وزن “افتعال”، والافتعال فيه تكلّف وسعي بإصرار وتصميم، وهو يكون في الشرّ.
فالمرء عادة يعمل ليأكل من ماله وكذا أولاده يأكلون من ماله بيسر وسهولة من دون عوائق، أمّا مَن يسرق فهو يتكلّف الفعل، ويتلفّت شمالًا ويمينًا ويترقّب ويحاول ستر نفسه بعيدًا من أعين الناس وفي هذا تكلّف كبير. فما تكسبه النفس يكون لها وما تكتسبه يكون عليها. وهذا ما توضّحه الآية 286 من “سورة البقرة”.. “… لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ…”.
لقد أصرّ العبقري زياد الرحباني في مسرحيته “فيلم أميركي طويل” في العام 1980، على أنّ الشعب هو المسؤول عمّا يحصل من تجاوزات آنذاك، حين قال: “ما تخبصوها بالزعما”، وحين قال أيضًا: “الشعب عم يستغلّ الزعما والزعما معتّرين” في رفضه القاطع والجازم للعبارة المتداولة “الزعما عم يستغلوا الشعب والشعب معتّر” – وتفكير اللبنانيين واحد بين ذلك الزمن وهذا الزمن، لأنّ “الهوية اللبنانية تُوك” (غلط) –  فالمسألة ببساطة “كما تكونون يُولّى عليكم”. فالشعب – كلٌّ بحسب توجّهاته – يتفَيهق ويَختار الزعيم أو السياسي الذي يستفيد منه ويعتقد أنّه يؤمّن مصالحه ويستغلّه أيّما استغلال. والمُنتخَب يظنّ أنّه أصبح فوق مستوى الناس، فيستغلّهم لمآربه الشخصية ويتربّع على أكتافهم ورقابهم ولا يُسأل عمّا يفعل، فكل شيء مباح له ومتاح أمامه.
لذلك، يُصنَّف مجتمعنا بأنّه الأكثر فشلًا على الإطلاق، وهذا لا يحتاج إلى أدلّة كثيرة لإثباته فالواقع الذي نعيش أكبر دليل على ذلك. لهذا، وصل بلدنا إلى هذه الحال من الانحطاط والتخلّف والإذلال. وأصبحنا مجرّد أرقام وأصوات في صندوقة الانتخابات، وهذه هي قيمتنا لا أكثر، وبتنا في ذيل قائمة الأمم وعلى هامشها. فالحمق والتفيهق والتفاهة والفشل باتت سيماتنا الأساسية، وما يزال السياسيّون يعتلون المنابر ويتصدرون شاشات التلفزة وصفحات الجرائد والمجلات، لتبرير الحال التي نعيش ولرمي الكرة في ملاعب الآخرين، ونسوا أنّ الناجح لديه خطط دائمًا والفاشل لديه تبريرات لفشله.
عندما سُئِل أنطون تشيخوف كيف تكون المجتمعات الفاشلة. أجاب: “في المجتمعات الفاشلة، ثمّة ألف أحمق مقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية. لذا، تظلّ الغالبية بلهاء على الدوام ولها الغلبة دائمًا على العاقل. فإذا رأيت الموضوعات التافهة تعلو في أحد المجتمعات على الكلام الواعي، ويتصدّر التافهون المشهد، فأنت تتحدّث عن مجتمع فاشل”.
وقال الفيلسوف ومؤسّس علم الاجتماع المؤرّخ عبد الرحمن بن خلدون في مقدّمته: “عندما تنهار الدول، يكثر فيها المنجّمون والمتسوّلون والمنافقون والمدّعون والكتَبَة والقوّالون والمغنّون النشاز والشعراء النظّامون والمتصعلكون وضاربو المندل وقارعو الطبول والمُتَفَيهقون وقارئو الكفّ بالطالع والنازل والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون، فتتكشّف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير، وتختلط المعاني والكلام، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل، وعندما تنهار الدول يسود الرعب وتلوذ الناس بالطوائف وتظهر العجائب وتعمّ الإشاعة، ويتحوّل الصديق إلى عدوّ والعدوّ إلى صديق، ويعلو صوت الباطل ويخفق صوت الحق، وتظهر على السطح وجوهٌ مريبة وتختفي وجوه مؤنسة…”. أليست هذه حالنا في لبنان؟ أليس هذا هو واقعنا؟ ألا يسير الجميع حيث يسير القطيع؟ بلى والله، وتالله، لن تقوم لنا قائمة، طالما أنّنا نصفّق لمن لا يستحقّ!

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى