ما أقبح العطاء من مال الغير! حين توهَبُ مزارع شبعا ممّن ليست له لمن لا حقّ له فيها!
خاص “المدارنت”..
استدعى خليفة من خلفاء بني العباس شعراءَ مصر، فرأى جمعَهم شاعرٌ فقير، كان يحمل جرّة فارغة ويقصد إلى النهر ليملأها ماء، فتبعهم إلى أن دخلوا دار الخلافة، فأكرمهم الخليفةُ وأجزلَ لهم العطاء، ثم حانت منه التفاتة إلى ذلك الفقير وهو يحمل الجرّة، فنظر إلى ثيابه الرثّة، وقال: من أنت؟ وما حاجتك؟ فطفق يقول:
ولمّا رأيْتُ القومَ شدُّوا رحالَهم/ إلى بحرِك الطامِي أتيتُ بجرَّتي
فأمر الخليفة بملء جرَّته ذهبًا وفضة، وكان من بين الحاضرين مَن حسده، فقال: هذا فقير لا يعرف قيمة هذا الكرم، وقد يُتلفه ويضيعه. فقال الخليفة: هو ماله ويفعل به ما يشاء. فلما وصل الرجل إلى الباب، فرَّقَ المال على المحتاجين. فبلغ الخليفة ذلك فاستدعاه وعاتبه على ذلك، فقال الرجل:
يجودُ علينا الخيّرون بمالِهم/ ونحن بمالِ الخيِّرين نجودُ
فأعجب الخليفةَ قولُه، وأمر أن تُملأَ جرّتُه عشرة أضعاف، وقال: الحسنة بـ10 أمثالها.
الشاهد في هذه الأقصوصة قولُ الخليفة: “هو ماله يفعل به ما يشاء”. فالرجل لم يتكرّم بما لا يملكه بل بما أصبح ملكًا له. لذا، ليس من حقّ أحد أن يعطي ممّا لا يملك، وله حرية التصرف في ما يملك.
لقد خرج علينا أحد الزعماء اللبنانيين خلال زيارته الجمهورية العربية السورية، يوم الأحد الواقع فيه 22/ 12/ 2024 – وهو ليس له صفة رسمية في لبنان الذي لم يعرف يومًا دولة حقيقية، ولا قضاء عادلًا ولا ساسة أكفّاء على قدر المسؤولية، ولا سلطات تعمل لمصلحة الشعب بل لمصلحة صفقاتها، فتطرّق إلى أمور كثيرة من بينها ترسيم الحدود بين البلدين الذي هو من صلاحيات السلطة التنفيذية لا من صلاحياته – خرج بتصريح أقلّ ما يقال فيه أنه عجب عجاب.
وفي اليوم التالي، برّر أحد أعضاء حزبه وأحد نواب الكتلة النيابية التابعة له في مداخلة تلفزيونية، بأنّ زعيمه تكلّم بحسب المعطيات التي بين يديه. فماذا تضمّن تصريحه؟
ممّا قال بالحرف: “إن مزارع شبعا تتبع للقرار 242، وإذا حصل ترسيم بين الدولتين اللبنانية والسورية على أساس أن شبعا لبنانية نقبل ذلك، لكن مزارع شبعا سوريّة”. لقد جعلنا هذا الكلام، نطرح سؤالًا كبيرًا، وهو: هل من ثمن لهذا الكلام؟!
لا شكّ في أنّ ثمّة لغطًا كبيرًا حول مزارع شبعا، وإشكالية أكبر بين ما يعرفه أصحابها والوثائق التي في حوزتهم والتي تثبت حقَّهم فيها، وقرار الأمم المتحدة 242، ولكن أن يعتبر زعيم لبناني، أنّ تلك المزارع ليست لبنانية، فذلك – لعمري – شرٌّ مستطيرٌ ومقولة ضيزى، لأنّه يتخلّى عن شيء لا يملكه ويتكرّم بما ليس له، فهل فاقد الشيء يعطيه؟
تقع المزارع المحتلة بين لبنان وفلسطين وسوريا – تحديدًا – الجولان، وهي تابعة لمنطقة العرقوب، واسمها مزارع شبعا، وشبعا أكبر قرى العرقوب وأهلها يملكون وثائق لبنانية بملكيتها، وهذا ما أثبته النائب السابق الأستاذ منيف الخطيب في كتابه: “مزارع شبعا حقائق ووثائق”، الصادر في العام 2002 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. وقد تضمّن الكتاب كمًّا هائلًا من الوثائق والخرائط الموثقة والموقعة والممهورة والمقيدة بأسماء أصحابها، فضلًا عن ملاحق – عبارة عن مقالات في صحف ومؤتمرات ومذكرات مرسَلة إلى المعنيّين – تناولت هذا الموضوع. وقد أثبتته قبل ذلك، وما تزال. “هيئة أبناء العرقوب” – بشخص رئيسها الدكتور محمد حمدان – في بياناتها ومؤتمراتها وجولاتها… وفي تقديم الوثائق والمستندات للمعنيين والمسؤولين ولهيئة الأمم المتحدة.
“بنو إسرائيل” يقولون أن أرض فلسطين التاريخية لهم، فهل قولهم يثبت ملكيتهم إيّاها بموجب قرار من الأمم المتحدة؟ ثم هل يعرف الزعيم المصرّح موقع المزارع بالتحديد؟ وهل يعرف مساحتها؟ وهل يعرف عددها؟ وهل يعرف امتدادها؟ وهل يعرف عائلة واحدة من العائلات اللبنانية التي تملكها؟ وهل لديه فكرة عن أهميتها وعن أهمية المواسم الزراعية فيها؟ وهل له الحق أوّلًا وأخيرًا في قول كهذا؟
إن مزارع شبعا، منذ احتلالها في العام 1967، وأصحابها اللبنانيون يطالبون بها عبر القنوات الرسمية والديبلوماسية والأطر المشروعة، ولم يدعوا سبيلًا إلا وسلكوه من أجل إثبات هويتها اللبنانية وأحقيتهم فيها، وليس لمخلوق – أيًّا كان – أن يسلبهم هذا الحق!
هل يدري الزعيم الوطني الكبير ماذا فعل بتصريحه هذا؟!
لقد فرض على أصحاب مزارع شبعا اللبنانيين، أن يطالبوا جهتين بأراضيهم، بدل أن يطالبوا جهة واحدة! من هنا، نقول لجنابه المُفوّه: أكرِم إن أردتَ ممّا لَكَ، لا من مالِ غيرك تجودُ!