هاجموا جمال عبد الناصر.. ثم إعتذروا منه ومَدَحوه!
“المدارنت”..
تحلّ الذكرى الـ53 لرحيل طيب الذكر جمال عبد الناصر، وحالة الأمة العربية ليست كما يُرام، ولا كما تشتهي العقول والنفوس والأفئدة، ولا كما تفيض به الأمنيات والآمال والأحلام والطموحات والتطلعات، ولا كما يتمنّى ويفضّل ويأمل المحبّون والمؤيّدون والمريدون، فهي منذ الرحيل المفاجيء للراحل العربي الكبير في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، لغاية اليوم، أضحت كما رغب الأعداء في خارجها، والحاقدون في داخلها، مُشتتة، مُبعثرة، متفرقة، لا يجمعها جامع، فكلّ مِن مسؤوليها يَهيم على وجهه، ساعيًا الى تحقيق مصالحه الخاصة، على حساب الوطن العربي الأرحب، وأهاليه، غير عابىء بالواقع العربي المستجدّ بعد رحيل عبد الناصر، ولا بحاجاته وآمال أهاليه.
الصادق الوحيد في توصيف الحالة التي وصلت إليها الأمة العربية، هو رأي قادة عصابات الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين العربية المحتلة، الذي عبّر عنه قول أول رئيس وزراء لدولة الكيان الصهيوني، دايفيد بن جوريون: “كان لليهود عدوّان تاريخيّان، هما فرعون قديمًا، وهتلر حديثًا، ولكن جمال عبد الناصر، فاق الإثنين في عدائِه لنا، وقد خُضنا الحروب من أجل أن نتخلّص منه، حتى جاء الموت وخلّصنا منه”. وقول نظيره في رئاسة حكومة العدوّ الصهيوني لاحقًا، مناحيم بيغن: “بوفاة جمال عبد الناصر، أصبح المستقبل مشرقًا أمام “إسرائيل” (الكيان الصهيوني)، وعاد العرب الى الفرقة كما كانوا”.
وعلى النقيض مِمّن عبّروا عن حزنهم وصدمتهم وأسفهم لرحيل عبد الناصر، عبّر البعض عن نشوَته وسَعادته وفرحه بل وشماتته في هذا الرحيل المفاجىء، ووصل الأمر ببعض الحاقدين على على عبد الناصر، أن يجاهر ويقول متشفيًا ومغتبطًا: “لقد أدّيت صلاة الشكر لله على هزيمة مصر في الخامس من حزيران من العام 1967″، كعالم الدين ووزير الأوقاف المصري سابقًا، الشيخ الشهير محمد متولّي الشعراوي، رحمه الله، (15 أبريل 1911 – 17 يونيو 1998)، الذي سارع الى الإنضمام لحملة التشهير غير المسبوقة بعبد الناصر، التي تولّى التسويق لها الكاتب الصحافي مصطفى أمين (21 شباط/ فبراير 1914/ 13 نيسان/ أبريل 1997، الذي أسّس مع شقيقه علي أمين صحيفة أخبار اليوم المصرية)، وتوابعه من عمّال الصحافة الصفراء في مصر، وكذا فعلت “جماعة الإخوان المسلمين”، وبعض قيادات الأحزاب المصرية الناشطة في حينه، بتشجيع ورعاية كاملة من الرئيس أنور السادات (1918/ اغتيل 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1981)، على منصّة معدة له وللقادة المصريين خلال عرض عسكري أقيم لمناسبة يوم النصر في حرب تشرين/ أكتوبر 1973، على أيادي مجموعة من الإسلاميين بقيادة الملازم أول خالد الإسلامبولي، الذي حكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص لاحقاً في أبريل 1982.
الشعراوي صلّى شماتة برحيل عبد الناصر
وقال عنه لاحقًا: العجيب أنه ميّت ويعيش معنا
الشيخ الشعراوي أبرز معارضي عبد الناصر
وحرص الشيخ الشعراوي، على إعلان فرحته برحيل عبد الناصر، بطريقة فجّة، لا تقدّر حرمة الموت، ولا رغبة الرحمن الذي اختاره الى جواره، ولا تعبّر عن إحترامه لمشيئة الخالق الرحمن، الذي باتَ عبد الناصر في عهدته ورحابه، قائلاً أنه: “إنه صلّى ركعتين شكرًا لله على هزيمة مصر” كما أسلفنا، الأمر الذي استفزّ الكثيرين من محبّي الراحل والمنافحين عنه، بخاصة، وأن الوطن العربي بأسره كان أمام مصاب جلل، شكّله رحيل عبد الناصر، واستغرب هؤلاء كيف يتجرأ هذا الشيخ على التصريح علنًا بما قاله، من دون أخذه بعين الإعتبار حالة الحزن التي طغت على الأمة العربية، عمومًا، وبخاصة، على مصر والمصريين، عقب رحيل عبد الناصر، ولا قدّر زحف ملايين المصريين من أجل المشاركة في تشييعه، كما الملايين التي شاركت أهالي مصر في حزنها العميق، وسارت في جنازات رمزية للراحل الكبير في غالبية مدن وقرى الأقطار العربية.
ولكن مع مرور الزمن، عاد الشيخ الشعراوي، الى رشده، وكتب مقالة نشرتها صحيفة “الأهرام” المصرية الواسعة الإنتشار في عددها الصادر بتاريخ 30 تشرين/ أكتوبر عام 1995، أيّ بعد وفاة عبد الناصر بسنوات طويلة، والتي وَرَد فيها: “قد مات جمال، وليس بعجيب أن يموت، والناس كلّهم يموتون، ولكن العجيب، وهو ميّت، أن يعيش معنا، وقليل من الأحياء يعيشون، وخير الموت ألّا يغيب المفقود، وشرّ الحياة الموت في مقبرة الوجود، وليس بالأربعين ينتهي الحداد على الثائر المثير، والمُلهَم المُلهِم، والقائد الحَتم، والزعيم بلا زعَم، ولو على قّديه يكون الحداد، لتخطّى الميعاد إلى نهاية الآباد».
وفي نفس السياق، أثار الشيخ الشعراوي، ضجّة كبيرة عندما زار ضريح المغفور له جمال عبد الناصر، وقرأ الفاتحة لروحه الطاهرة، بعد إتصال أجراه مع إدارة صحيفة “الأهرام” الواسعة الإنتشار، طالبًا من أحد مسؤولي الصحيفة تكليف صحافي ومصوّر لمرافقته في زيارة ملحة وضرورية، سيقوم بها على الفور، وفوجيء الصحافي والمصور بأن الزيارة الى ضريح جمال عبد الناصر.
وأوضح الشعراوي بشأن الزيارة، أن “جمال عبد الناصر جاءه في الحلم، يرافقه شيخان، أحدهما يرتدي ثوبًا أبيضًا، وفي أذنيه أطراف سمّاعة طبّية، والثاني يحمل في يدِه مسطرة تشبه حرف (T) الشهيرة الخاصة بالمهندسين”، (ويقال أيضًا، أن الشعراوي قال للصحافيين والمصورين الذين سجلوا وصوروا الزيارة: “لقد أتاني عبد الناصر في المنام، ومعه صبيّ صغير وفتاة صغيرة، والصبيّ ممسكًا بمسطرة هندسية كبيرة، والبنت تمسك سماعة طبيب، ويقول لي: ألم يكن لدى حق أيها الشيخ؟ فقلت له بلي يا عبد الناصر أصبت أنت وأخطأت أنا”!)، مضيفا “فهمت من هذه الرؤيا، أن عبد الناصر، يقول لي: أنه أدخل دراسة الطبّ والهندسة الى جامعة الزهر، وربما يغفر الله بهذا ما قد يؤخذ عليه”.
وتابع الشعراوي: “قررت بعد كلمة عابرة فى حقّ عبد الناصر، أن أزور ضريحه”، لافتًا الى أنه “يجب على الإنسان ألّا يُسيء الظنّ بفعل أحد، وأن يترك سرائر الناس لله وحده”.
أحمد فؤاد نجم سُجن 9 سنوات في عهد عبد الناصر
وكتب أجمل قصائده في رثائه بعد رحيله
ومن أبرز منتقدي سياسة جمال عبد الناصر، شاعر العاميّة العربي الشهير بـ”الفاجومي”، أحمد فؤاد نجم (1929-2013)، الذي كان يهاجم الحكومة المصرية في أشعاره مراراً وتكراراً، مما أدى إلى دخوله السجن. وكانت إنتقاداته اللاذعة سببًا وجيهًا لشهرته التي تنامت في مصر، وتجاوزتها الى الوطن العربي والعالم، وجعلت منه بطلّا شعبيًا.
يقول أحمد فؤاد نجم، في إحدى قصائده:
الاسم: صابر..
التهمه: مصري..
السن: اجهل اهل عصري..
المهنه: وارث عن جدودي والزمان
صنع الحضاره والنضاره والامان..
البشره: قمحي..
القد: رمحي..
الشعر: اخشن م الدريس..
لون العيون: اسود غطيس..
الانف: نافر كا لحصان..
الفم: ثابت في المكان..
نجم معارضًا لجمال عبد الناصر
عٌرف عن الشاعر أحمد فؤاد نجم، أنه نموذج للشاعر المعارض، كونه أثار الجدل بسبب أشعاره، ولذلك كان شرساً في مواجهة جماعة “الإخوان المسلمين”، كما كان شرسًا في إنتقاد النظام المصري في عهود: جمال عبد الناصر، أنور السادات وحسني مبارك، ودخل في مشكلات كثيرة مع السلطات الرسمية بسبب هجومه المتواصل على الحكومة المصرية. وقال عنه أنور السادات: “الشاعر البذيء”.
قال أحمد فؤاد نجم: أنه “صدّق أحلام الرئيس جمال عبد الناصر في دعوته للقومية، وأيقن باقتراب النصر على “إسرائيل”. لكن لم يخطر بباله أن عبد الناصر سيزجّ به في غياهب المعتقل، وهنا قال فؤاد نجم عندما سُئل عن أسباب سوء علاقاته برؤساء مصر: “لم أناصب الرؤساء العداء، لكنهم هم من ناصبوا الشعب المصري العداء”..
كان نجم، من القلائل الذين تجرأوا على انتقاد سياسات عبد الناصر في العلن، في إحدى أبرز قصائده أيام حكم عبد الناصر، والتي كتبها بعد النكسة مباشرة، تحت عنوان: “الحمد لله”، وجاء فيها:
“يا أهل مصر المحمية بالحرامية
الفول كتير والطعمية والبر عمار..
والعيشة معدن وأهي ماشية
وآخر أشيا مدام جنابو والحاشية
بكروش وكتار”.
وكتب أحمد فؤاد نجم، قصيدة تمّ منعها، يقول فيها:
“الحمد لله خبطنا تحت بطاطنايا
محلا رجعه ظباطنا..
من خط النار..
الفول كتير والطعمية..
والبر عمار والعيشة معدن
واهي ماشية اخر أشيا..
مادام جنابه والحاشية
بكروش وكتار ح تقول لي سينا وما سينا
شي ما تدوشناشي..
ما ستميت أوتوبيس
ماشى شاحنين
أنفار إيه
يعني لما يموت مليون..
أو كل الكون..
العمر أصلاً مش مضمون
والناس أعمار إيه يعني في العقبة
جرينا ولا في سينا..
هى الهزيمة تنسينا إننا أحرار”..
ايه يعني شعب ف ليل ذلة..
ضايع كله..
دا كفاية بس اما تقول له..
احنا الثوار.. الحمد الله ولا حولا..
الحمد الله ولا حولا..
مصر الدوله..
غرقانة في الكدب علاوله..
والشعب احتار..
وكفايه اسيادنا البعدا..
عايشين سعدا..
بفضل ناس تملا المعده..
وتقول اشعار..
شعار تمجد وتماين..
حتى الخاين..
وان شا الله يخربها مداين.. عبد الجبار.
وهذه القصيدة دخل بسببها السجن، ولم يخرح إلّا بعد وفاة عبد الناصر.. علمًا أنه سجن في عهد عبد الناصر لمدة 9 سنوات؛ إلا أنه رثاه عقب وفاته، وكتب قصيدة بعنوان: “على ضريح عبد الناصر”.
أحمد فؤاد نجم يرثي جمال عبد الناصر!
الأبنودي معارضًا عبد الناصر
ومن الشخصيات الثقافية المهمّة، التي جاهرت في معارضة جمال عبد الناصر، الشاعر العربي الشهير عبد الرحمن الأبنودى، الذي تعرّض للسجن في العام 1966، بسبب معارضته العلنية لعبد الناصر واقترابه من مجموعات شيوعية، حيث مَكث في سجن انفرادى بالقلعة لمدة 6 شهور، الى أن أُطلق سراحه استجابةً للفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر، الذي إشترط للحضور إلى مصر، أن يتمّ الإفراج عن سجناء الرأي والفكر، وكان له ما أراد.
وواصل الأبنودي معارضته لنظام عبد الناصر. وقبل أيام قليلة من “ثورة 25 يناير” عام 2011، كتب الشاعر الكبير قصيدة يرثي فيها جمال عبد الناصر، وتعتبر هذه القصيدة، من أجمل ما كتب، وليبرر هذه المفارقة (معارضة عبد الناصر، خلال حكمه ورثاءه لاحقًا)، قال الأبنودي في حديث “تلفزيوني”: “ساعتها مكنتش ناضج، وكنت جايي من الأرياف والصعيد، وعاوز أدوس على الزراير يتصلّح حال مصر في ثانية، بس أنا طلعت غلط، وعبد الناصر كان على حق، أنا وقفت ضدّ زعيم ميتوقفّش ضدّه، وده العمى السياسى”.
إضغط على الرابط لقراءة قصيدة الأبنودي عن جمال عبد الناصر:
الأبـنـــودي يـــرثـــي جـمـــال عـبـــد الـنـــاصــــر..
وعلى الرغم مِمّا قيل ويقال عن جمال عبد الناصر، يبقى عبد الناصر حاضرًا في وجدان كلّ عربي، وما تزال المطابع تعمل على نشر الكتب المتعلقة فيه، وما يزال حتى اليوم إسمه متألقًا ومتقدّمًا على أسماء كبار القادة التاريخيّين في العالم، وليس في مصر أو الوطن العربي فقط.