مقالات

“المستوطنون” يتحدّون رواية الإعلام البريطاني!

بعض أفراد “قطيع” من المستوطنين الإرهابييين الصهاينة

“المدارنت”
كان علينا أن ننتظر وثائقي لويس ثيرو بعنوان “المستوطنون”، حتى تخرج رواية الإعلام البريطاني من هاجس هجمات 7 أكتوبر (2023)، إلى ما قبله من تاريخ معقّد لتفسير النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. قبل هجمات حركة حماس بكثير، كانت حياة الفلسطينيين (ولا تزال) حالةً خاصّةً لمجموعة تقاوم قمعاً غير موصوف، في ظلّ قسوة نظام فصل عنصري. أثار الفيلم صدمةً لدى الرأي العام البريطاني لفجاجة محتواه: “كيف يمكن لهذا الواقع أن يكون معيشاً يومياً للفلسطينيين وما هذا الوجه القبيح للمستوطنين”، إلى درجة دفعت الصحافي البريطاني الأميركي إلى التعليق في مقالة نشرتها صحيفة الغارديان: “إذا أُصبت بالصدمة هذا لأنك لم تكن تعير اهتماماً لما يجري في تلك البقعة من العالم”.
ليس من المبالغة القول إنّ فيلم ثيرو هو الشهادة الأولى من نوعها في الإعلام البريطاني أخيراً (وربّما في الإعلام الغربي عموماً) عن وحشية الاحتلال، بما يدحض كلّ أشكال الإنكار لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي ولانعكاساته المباشرة وغير المباشرة. يَعبر الصحافي وفريقه الحواجز الفاصلة بين الفلسطينيين ومحيط شديد العدائية من المستوطنين، الذين يدّعون حقّاً إلهياً في الأرض، ويمارسون شتى أنواع الاعتداءات والمضايقات بحقّ الفلسطينيين من أهالي البلدات المجاورة لهم، بحماية ودعم من الشرطة الإسرائيلية. لا يضع ثيرو قناعاً على وجهه، ولا يحاول أن يلعب لعبة التوازن بين الجلّاد والضحية، بل يعبر بين المجموعتَين زائراً صامتاً في أغلب الأحيان، يستمع إلى تصريحات أفراد المجموعة الأولى حول الحقّ الديني في الأرض وضرورة طرد الفلسطينيين والعرب، ويعايش مخاوف أبناء المجموعة الثانية، التي تتعرّض لعنف ممنهج، وتختبئ خلف الأبواب المغلقة خوفاً من هجمات المستوطنين أو مداهمات الشرطة. يسأل ثيرو فلسطينياً يعايش ثيرو معه هجوماً لمجموعة من المستوطنين لاحقته في زيارته للمنزل: هل نطلب الشرطة؟.
يردّ الفلسطيني: أيّ شرطة؟ إنهم واحد. لا يسعى الفيلم إلى تهذيب مداخلات المستوطنين، وغالبيّتهم هاجروا إلى فلسطين من دول الغرب، ومن الولايات المتحدة خاصّة، يتحدّثون للصحافي وهم مدجّجون بالسلاح، ولا يرون حرجاً في التلفّظ بأكثر التعبيرات عنصريةً وعنفاً. تقول دانييلا ويس، عرابة حركة الاستيطان، إنها تحلم بإسرائيل الكبرى التي تشمل لبنان والأردن، وتروي أنها تزور باستمرار حدود غزّة التي تتعرّض لحرب إبادة وتجويع، لأنها تريد أن تخلق شعوراً بالتماهي مع فكرة تحويل غزّة إلى مستوطنات يهودية. يقول أحد الحاخامات المتطرّفين، الذي يرافقها في رحلتها إلى حدود غزّة، إنه حان الوقت لـ”تطهير” الأرض من “راكبي الجمال”.
أثار “الوثائقي” عاصفةً من التعليقات، بما في ذلك انتقادات للصحافي وفريقه بالمبالغة في وصف تأثير هذه المجموعة بحجّة أنها محدودة. ردّ ثيرو، الذي أعدّ فيلماً وثائقياً سابقاً عن المجموعة نفسها، أن تأثير هؤلاء وعنفهم لا يمكن أن يقارن بمجموعات اليمين المتطرّف في الغرب، التي لا يتعدّى تأثيرها المشاركة في العمل السياسي، إذا ما كانت مهمّشة ومعزولة. كتب ثيرو في مقالة نشرتها “الغارديان”:
“خلال أيّام التصوير، وأنا أقود سيارتي عبر نقاط التفتيش، وأتجاوز الجدران المقاومة للانفجارات وأبراج الحراسة وبساتين الزيتون والبلدات الفلسطينية، تذكّرت زيارتي السابقة قبل 14 عاماً. كان الوضع لا يزال على حاله. الشعور نفسه بمجتمع من طبقتَين؛ مستوطنون يهود يعيشون محميين بموجب القانون المدني الإسرائيلي، وفلسطينيون يخضعون لنظام حكم عسكري غامض، مع إغلاق الطرق، وصعوبة الحياة… الإذلال اليومي المتمثّل في الطوابير وفحص جوازات السفر، الخوف من تخريب المستوطنين وترهيبهم”.

لم تبادر قناة بي بي سي الثانية (عرضت الفيلم) إلى سحبه كما جرت عليه العادة في سحب مواد إعلامية تنقل مضموناً فجّاً وحقيقياً عن حرب الإبادة في غزّة، أو تنتقد إسرائيل بقسوة، بسبب تعرّض المحطّة لضغوط. وثيرو معروفٌ بإنتاجاته الوثائقية الرصينة والجريئة، منها أفلام عن إدمان المخدّرات والاعتداء الجنسي واكتئاب ما بعد الولادة، بما في ذلك فيلم سابق أخرجه قبل 14 عاماً عن المجموعة نفسها من المستوطنين. شكّل الفيلم السابق، “الصهاينة المستوطنون”، لدى عرضه في 2011 نافذةً على حياة هذه المجموعة التي باتت اليوم تتحكّم بقسم كبير من أراضي الضفة الغربية، بدعم من الشرطة، وباتت أيديولوجيتها تجد صدى واسعاً في السياسات الحكومية من دون حرج.
يُظهر الفيلم الجديد مدى تدهور الأوضاع مقارنةً بما كانت عليه في زيارته الأولى، كما يظهر مدى صعوبة العمل الصحافي في تلك البيئة المنفلتة من أيّ قانون، فالصحافي، رغم شهرته العريضة وسمعة الإعلام البريطاني العمومي، تعرّض لترهيب ومضايقات لم يسبق له أن تعامل معها منها أن مستوطنين صوّبوا نحوه بنادقهم المزوّدة بمنظار ليزر من خلال نوافذ منزل لفلسطيني زاره، في حين اكتفى صاحب المنزل بالمراقبة حذراً. في زيارته لمنازل المستوطنين، اضطرّ إلى أن يطلب منهم خفض أسلحتهم، حتى إنه فقد أعصابه في إحدى المواجهات صارخاً “لا تلمسوني” في وجه جنديَّين إسرائيليَّين يرتديان أقنعةً.
سافرنا مع ثيرو إلى عالم آخر لم يكن يخيّل لأيّ منا أنه موجود في دولة تدّعي الديموقراطية. تشبه الحياة بالنسبة للفلسطينيين حالة إذلال مستمرّة تدفعنا إلى التساؤل كيف بإمكانهم التحمّل؟ ولم لا يغادرون بحثاً عن حياة ممكنة؟ في المقابل، تبدو حياة المستوطنين كأنّها ساحة منفلتة على التعدّيات خوفاً من “الآخر”، لشدّة الكره أو الغباء. لا يطرح هؤلاء مجرّد السؤال عن سجن الخوف والجنون الذين يعيشون فيه. نحتاج إلى أكثر من “وثائقي” لفهم آليات الدعاية التي تدفع مجموعة المستوطنين إلى الجنون اليومي، وآليات صمود الفلسطينيين، أبناء هذه البلدات، دفاعاً عن حقّهم في الوجود.
في وجه ردّات الفعل التي سعى بعضها إلى الإيحاء بأن تلك مشكلة مجموعة ضيّقة لا الدولة بذاتها، كتب ثيرو: “رغم فخري بالفيلم، أعلم أن فيلمنا الوثائقي لن يلتقط كامل صورة ما يحدث في الضفة الغربية. فواقع التهجير والمضايقات غالباً ما يكون في تفاعلات أشدّ قسوةً ممّا رأيت”، مضيفاً: “أن فيلماً عن مستوطني الضفة الغربية المتطرّفين هو ليس عن منطقة من الشرق الأوسط فحسب، بل يحكي عنّا نحن أيضاً”، ولعلّ فيلم “المستوطنون” يحكي أيضاً عن الإعلام البريطاني، الذي لا يريد أن يرى مأساةً بهذا الحجم، بانتظار ثيرو.

فاطمة العيساوي/”العربي الجديد”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى