على هامش ذكرى الثورة التونسية المجيدة!
“المدارنت”..
قد لا أجانب الصواب إذا قلت إنّ الديمقراطية بتونس انتصرت، وإنّ الأجواء في هذا البلد الاستثنائي غدت تعبق برائحة الوليد القادم: الحرية، لاسيما في ظل الرياح العاتية التي عصفت بالربيع العربي، في بعض الأقطار العربية الأخرى..
وما علينا والحال هذه، إلا أن نحتفي جميعا بانتصار الديمقراطية في بلدنا، ونواصل مسيرة الثورة بثبات حتى تنتقل تونس من النظام الجمهوري المزيّف إلى النظام الجمهوري الديمقراطي.
ومن هنا، فإنّ أهم إنجاز حققناه كتونسيين عبر الانتخابات التشريعية/الرئاسية هو أنّ تونس بقيت شامخة في غابة «الربيع العربي» التي احترقت أشجارها في ليبيا ومصر واليمن وصولا إلى العراق.
تونس في حاجة إلى تكاتف كل مكونات المجتمع المدني و القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية، ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح ينأى بالبلاد والعباد عن الفتن والإثارة المسمومة
الاحتراق الذي أتحدث عنه حدث بفعل التصدعات الداخلية داخل البيت العربي، الذي هبّت عليه – بالأمس- نسائم الثورة، لكنه لم يصمد في وجه قوى الردة، وغدا بالتالي مسرحا للاحتراب، حيث السلاح اللغة الوحيدة السائدة بين الفرقاء السياسيين الذين غلّبوا النقل على العقل، فخسروا الاثنين معا، الحرية والديمقراطية.. والنتيجة الحتمية لتلك التداعيات الدراماتيكية هي أنّ تلك الثورات غدت رهينة لدى قوى خارجية، لا هم لها سوى إجهاض جنين الحرية داخل أحشاء الثورة، ومن ثم خنق كل نفس ديمقراطي أو مشروع وطني تحرري من شأنه أن يخلّص الأمة العربية من عقال الترجرج والتخلّف.
إنّ أهمية التجربة الديمقراطية في تونس، تتجلى أساسا في حملها لبذور الانتشار في المنطقة، كما سبق لانتفاضتها إن كانت الشرارة الأولى التي أشعلت «الربيع العربي»، فمنذ نشوبها، أوحت الثورة التونسية بإمكانية التغيير الذي طال انتظاره، كما أوحت بأن عملية التغيير في أوضاع معقدة ومتراكمة الرواسب، كما هو الحال في المنطقة العربية، يمكن أن تحصل، بصورة تدريجية انتقالية وسلمية، يجري الاحتكام فيها إلى عملية الاقتراع التي تفسح للمواطن فرصة للمشاركة في الحياة السياسية، طالما افتقدها، مع ما ترتب على هذا الفقدان من عواقب تدفع اليوم العديد من الشعوب العربية ثمنها.
أقول هذا لأني على يقين من أنّ قوة التجربة التونسية في الأفق الديمقراطي تكمن في أنها السبّاقة، التي حافظت على الأمل بالتغيير السليم، على الرغم من العقبات المتراكمة. ولا شك في أن وعي الشعب التونسي، وتنوّع ثقافته وممارسته وانفتاحه، كان له الدور الأساسي في هذه النقلة النوعية المفصلية، التي يبدو أنها تمتلك طاقات للتطوير والترسخ، حيث تصبح عصية على مناخات العنف والإرهاب السائدة راهنا في عالمنا العربي، ولكن.. بغض النظر عن المنطق الحسابي، ورهانات الربح والخسارة، لا يزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الاستقرار بصورة نهائية، بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب، مما سيفضي مستقبلاً – في تقديري- إلى تجمع القوى المتقاربة، إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي.
كما أن تجربة الحكم في ظل حكومة كمال المدوري، لن تكون سهلة بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها، خصوصاً في الملف الاقتصادي وكذا الملف الأمني، وعلى رأسه موضوع الإرهاب وتداعياته الدراماتيكية على الاستقرار السياسي المنشود.. هذه الملفات الشائكة تستدعي وعيا عميقا بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتستخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة، وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة، إذا أرادت- حكومة المدوري – أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة..
لكن في جميع الأحوال، فإن الحكومة أمام تحدّي إقناع التونسيين بأدائها، فالخطاب الإعلامي للحكومة ضعيف ويتم بنسق بطيء في مرحلة حرجة، لا تقبل التسويف أو التواصل المتقطع بين صاحب القرار من جهة، والمتلقي وهو المواطن الواقف على الجمر، من جهة ثانية. مع ذلك، فإن معضلة الحكومة لا تقف عند إشكالية التواصل مع الرأي العام، وإنما أيضاً في ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر جرأة في عديد القطاعات الحيوية.
على هذا الأساس، علينا أن ندرك جميعا أنّ الديمقراطيات، إنما قامت على نمط من الإكراهات، وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة، لتستقر في النهاية على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبة بعضها بعضاً، وكل هذا مشروط بتجنب العنف سبيلاً لحل النزاعات، ذلك أنّ ديمقراطية ما بعد الثورة في تونس قائمة على تعايش مفروض، وتوازن قوى واضح، سيدفع كل الأطراف، بغض النظر عن أحجامها الانتخابية، إلى الإقرار بحق الجميع في المساهمة في بناء المشهد السياسي المقبل، ضمن الخيارات الكبرى للمجتمع التي تم التنصيص عليها في الدستور التونسي الجديد..
ويكفي أن نتذكّر ما ترتّب عن الحوار بين الفرقاء السياسيين من خيارات سياسية كبرى، تمثلت بالأساس في الإسراع بإكمال إعداد دستور جديد، على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً، ولا متيسراً، كما ترتب عنه قبول أجندة تقضي بإنجاز الانتخابات التشريعية، ثم الرئاسية، في آجال محددة، وإطلاق الجمهورية الثانية في تونس بصورة لا رجعة فيها، الأمر الذي ساعد على تخطي عتبة الانسداد الذي حصل
أردت القول إن تونس في حاجة إلى تكاتف كل مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية، ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح ينأى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن، الإثارة المسمومة والانفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية، وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كل المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا. أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات، أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية، وما على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع – النهم المصلحي والانتفاعي- المسيطر عليهم، ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح، ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية، من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها، تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.
لقد أنجز الجانب النظري من امتحان الديمقراطية بكتابة دستور ضامن للحقوق والحريات في بعدها الشمولي، ونحن اليوم على أبواب مرحلة جديدة أشد عسرا وأكثر صعوبة وهي مرحلة تنزيل النظري إلى أرض الواقع وتطبيقه بشكل موضوعي وخلاّق.. بمنأى عن الأيادي المرتعشة والألسن المتلعثمة..
وهنا أختتم: إن تونس اليوم، وعلى الرغم مما تخلل مسيرتها من شوائب، إلا أنها باتت تشكّل بستان الأمل في وسط دياجير مكبلة لحالات عربية عديدة، وبذلك، هي جديرة بالدراسة المعمقة والمستفيضة، لعلها تساهم في العثور على مكامن التصحيح والتصويب اللازمَيْن والمُلِحَّين، ولينشغل في الأخير أهل الربيع العربي
بأمورهم وأحوالهم، ويتركوا تونس تكمل تجربتها، لأنها- ببساطة- خارج المقارنة والمنافسة.