تربية وثقافة

قالت لي أمي: تزوّج كاتبة!

عمر سعيد/ لبنان

خاص “المدارنت”/.. قالت لي أمّي: تزوّجها كاتبة! بقيت صامتًا، فأنا لم أخبر أمّي بتاتًا عمّا فعلته ذئاب الحبّ بقلبي.
كنت وحيدها الّذي ابتلعته الغربة، وراح يربّي ذئاب الحبّ هناك.
لم تكن أمّي من هواة تربية الطّيور في أقفاص، لكنّها تمنّت وبكلّ أمومتها لو أنّها ربّتني في قفص.
غير أنّ أبي ما كان يتقن الحبّ إلّا عن بعد، لذا كان يلقي بنا ذكورًا وإناثًا إلى البعيد، ليطعمنا حبّه كلمات في رسالة أو اتّصال هاتفيّ سنوي.
كانت أمّي إذا جلست تربّعت، وقد شدّت رأسي إلى حُجرها، تداعب شعري، وتمسح دمعها بطرف منديلها الأبيض.
كنت أضاحكها، وأسألها: “في قمل”؟!
فتشرق أنفها، وتنزل بفمها تقبّل شعري وهي تقول: القمل لا يلغي بأنّك روحي وأحبّهم إلى قلبي.
رافقتني إلى لقاء أكثر من فتاة أعجبتني.. كنت فارسها الوحيد، وكانت كلّ عشيرتي.
كنت فارسها الّذي لا يتقن أيّ حرب، فارسها الّذي لم يركب إلّا حصان الغربة، فارسها الّذي ظلت قبيلته خلف المطارات، فارسها الّذي ما قاد إلا جيشًا من الأماني إلى غزوات أحلامه، الّتي ما حدّثت أمّي عن واحد منها، إلّا وقد وعدتني بتحقّقه، فقد كنت نبيها الذي توحي إليه.
تلك الأحلام الّتي لم يترك أبي عصًا إلّا وهش بها عليها ليطردها إلى البعيد، فصدقت أمّي، وكذب أبي.
رافقتني إلى زيارة أكثر من حبيبة، وما فرحت بخطوبَتي، كان أبي رحمه اللّه يعاني متلازمة الخوف من الحبّ، وما أن نرجع إلى البيت، ويعلم بزيارتنا، حتّى ينهال علينا سبًّا وشتمًا، ويتّهمها بالخروج على طاعته.
قضت عمرها تختبىء خلف دموعها، من دون أن تفجّر غضبها يومًا.
قالت لي يومًا: تزوّجها كاتبة.
كنت منكبًّا على كتابة نصّ، أحني رأسي، وأحدّق في أوراقي. رفعت رأسي، ورحت أتأمل وجهها الأسمر، يقطر خبزًا وعنبًا. لن أقول عسلًا، لأنّي في طفولتي ما ذقت العسل يومًا، وما عرفناه في بيتنا، لذا لم استخدمه في تعابيري، فأنا أكره الكذب مع النّفس.
قلت: لها وأين المشكلة في أن تكون مثلك ترعى الماشية، وتقلي بيض بقورما، وتطبخ مجدرة برغل، وتغسل على الحطب؟!
قالت: ما أفعله لا ينال مما فيّ من وجع، خُذها كاتبة، ولا تأخذها مثلي بلا صديقات.
قلت لها: وأين أجدها يا أمّي! قالت: فتّش!
ماتت أمّي، ولم تغضب يومًا من أبي. ولم أتوقف عن الكتابة، وكثيرًا ما أغفو على ما أفعل، دون أن تسيل دموعي، وإن فعلت، فلأنّ وجه أمي في مخيلتي، لا يزال يخبرني بما تمنّت أن تكتبه.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى