تربية وثقافة

بـيـــن جـيـلـيــــن!

عمر سعيد/ لبنان

“المدارنت”/.. جلسنا أنا وزوجتي في صالة مطعم صغير.. أتى المضيف. وضع فوق الطّاولة أمام كلّ منّا صورة، يحتل زاويتها السفلى من اليمين مربع “باركود”.
بقينا قرابة عشر دقائق قبل الطلب، إذ قصدت زوجتي المغسلة؛ غسلت يديها، وما إن عادت؛ حتّى فعلت أنا مثلها.
عاد مضيفنا الطّعشري، ليقول:
“ما وصلنا منكم أيّ طلب”..
ردّت زوجتي: “ما حدا سألنا شي”..
فلفت انتباهها إلى “الباركود”.
وردّت ببراءة: “ما معنا نت”.
أخذ الشّاب يقدّم الحلول، ويسأل: بتحبوا تاخدوا “الواي فاي” تبعنا؟!
قاطعته انا قائلًا: نحن مش من جيلكم عمو.. جيلنا معوّد حدا يسأله، وهو يختار.
سجّل طلبنا وذهب. تذكّرت لحظتها أنّ معظم المُضيفين كانوا يلتفتون إلينا، ويتهامسون، فأدركت أنّهم كانوا يحلّلون أسباب تأخّرنا عن الطّلب.
أتتنا صبيّة طعشرية أيضا، عرّفتنا بنفسها قائلة: أنا “المنجير” هون، وراحت تعتذر عن التّقصير، وعلّقت: “أنا توقّعت إنكم بتعرفوا تستعملوا الطّلب الالكتروني، بالباركود!” وكرّرت أسفها.
أعدت الكرسي الفارغ بجانبي إلى الخلف؛ وطلبت منها الجلوس.. عرّفتها بنفسي وبزوجتي، وعملنا..
وقلت: يا بابا النّاس بتطلع من بيتها عالمطاعم والمسارح والسّينمات والصّالات المفتوحة؛ لتتعرّف على ناس جداد، ويتحركشوا بعض، ويحكوا مع بعض.
لو بدنا ناكل بـ”الباركود” كنّا بقينا بالبيت وطلبنا “دلفري”.
كانت الفتاة تصغي، وتهزّ برأسها، وتوافق على ما أقول..
ثمّ قلت: لم أقصد أن أحاضر على مسمعك.. إنّما قصدت أن ألفت انتباهك إلى خطورة ما تتباهون به. فقبل “الباركود” يا بابا، كان يقف أمامنا شخص بابتسامة وربطة عنق، وقلم وورقة، وقبل أن يسألنا، نسأله: حضرتك من وين؟ مزوّج؟! وشو عندك ولاد؟! وقديش صار لك بهالمطعم؟ وهل المعاش يكفيك؟!
كان هذا الفضول ميزتنا الإنسانيّة الّتي مكّنتنا من عبور السّنوات، والصّعاب.
كنّا قبل الجي بي إس نسأل نصف من في الحيّ؛ لنصل إلى بيت أو عنوان نريده. ولكم عاد علينا ذلك الفضول بصداقات، ما زالت تجمّل حياتنا.
كنّا قبل “التيك توك” و”الفيس..” و”الإنستا..” و”الواتس..”، و… نعقد سهراتنا مع الجيران، ونتبادل الزّيارات والأطعمة التي تورّث أبناءنا علاقاتنا بسبلياتها وإيجابياتها.
قد تعجبكم حياتكم “الألكترونية” يا بنتي.. وهذا طبيعي.. لكنّ عيبكم أنّكم تريديون سلخنا عمّا ألفنا.
ثمّ قلت: زمان كنّا ندفع الحساب نقدًا، ونترجم شكرنا للمُضيف واحترامنا لعمله بالبخشيش. كنّا نعتبر ذلك واجبًا علينا.
لقد حرمكم الدّفع بالهاتف، وعالمكم التّقني هذا – ووضعت إصبعي على الباركود- أن تفهموا من نحن؟!
ثمّ سألتها: بتحبّي ناخذ “سلفي”؟!
فتناولت هاتفها، وقلت:
أرأيت؟! لقد تحمّست “للشّو”.
ثمّ أخبرتها كيف تتغلب القنافذ على برد الشّتاء، إذ تلتصق ببعضها البعض، فينشط نكز إبرها المتبادل دورتها الدّموية.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى