رأي المدار

محمد خليفة ووعدَه الأخير*..!

برفقة فارس الكلمة الحرّة الراحل محمد خليفة

خاص “المدارنت”..

 كتب الأخ محمد خليفة على جدار صفحته على موقع “فايسبوك”، عند الساعة 7 و20 دقيقة في 2 نيسان، تحت عنوان: شكرًا.. وحماكم الله.
الأخوة والأصدقاء الأعزاء، شكرًا لكل من اتصل سائلًا، أو متضامنًا معي بعد إصابتي بالفيروس اللعين، لقد بدأت أتماثل للشفاء بفضل الله، وتجاوزت مرحلة الخطر والقلق….

لم أكن مطمئنًا لهذه الرسالة البرقية، وقرأت بين سطورها ما يوحي بأن هناك خطبًا ما يُريد إخفاءه، خصوصًا، وأن الأمر يتعلق بكورونا الخبيثة، وكوني أعرفه جيدًا، وأعلم معاناته الشخصية صحّيًا، شعرت بأنه يحاول إخفاء حقيقة وضعه، بخاصة، وأنه اعتاد على مواجهة الصعاب والمشكلات والأزمات وتداعياتها منفردًا، بكل قوة وصلابة وبأس، متجنبًا إشغال الآخرين بحالته الصحية.

حاولت الاتصال به بعد دقائق قليلة من قراءة رسالته السريعة، لم أوفق بردّ منه، حاولت إرسال رسالة نصية، ولكن هاتفه كان في وضعية لا يستقبل معها أيّ اتصال أو رسالة، الأمر الذي ضاعف إنشغال البال والخوف عليه، ورفع منسوب قلقي الى مستوى كبير جدًا.

واصلت محاولات الإتصال بالأخ محمد، لغاية 4 نيسان، حيث اتصلت به عند الساعة 11 و56 دقيقة، وجاءني منه الردّ مُطمئنًا، وروى لي قصة إصابته بكورونا، ورحلة علاجه السريعة في المستشفى، التي تابعها في منزله في العاصمة السويدية، حيث يقيم، بعد سلسلة هجرات، بدأها من مدينة حلب، مسقط رأسه، مرورا بعدة دول عربية أبرزها لبنان، قبل استقراره في السويد.

وبسرعة لافتة، أوحى لي وكأنه كان مُصابًا برشح موسمي خفيف، وكما درجت عليه عادته، سأل عن أحوالنا جميعًا وعن زوجتي وابنتي، وعن الاخوة والأصدقاء في لبنان. متجاوزًا موضوع إصابته بكورونا الخبيثة. وذهب بي الى مواضيع مشتركة، (إعلامية وسياسية وفكرية وثقافية). منها السعي الى مقابلة مطوّلة مع الأمين العام السابق لـ”الإتحاد الاشتراكي العربي” (الإتحاد/ لاحقًا)  في لبنان، وأحد أبرز القيادات الناصرية في لبنان، و”التنظيم الطليعي”، الأخ عمر حرب، الذي رحّب بالمشروع، وأبدى استعداده للتجاوب معنا. والإجابة على كل تساؤلاتنا.

ناقشنا إمكانية السعي الى إجراء مقابلات مع قيادات اخرى لـ”التنظيم الطليعي”، في لبنان والوطن العربي، على أن ننشر نصوص هذه المقابلات على صفحات موقع “المدارنت”، (الذي أغناه الأخ محمد خليفة بإسهاماته الدائمة منذ إطلاقه في 18 نيسان 2019)، والتي يمكن أن تشكّل في أهميتها، نواةً لكتاب نقديّ لمرحلة تأسيس “التنظيم الطليعي”، وما تفرّع عنه من “تنظيمات ناصرية”، شكّلت أطر وواجهات شكلية لـ”التنظيم الطليعي” الأم، في غالبية أقطار الوطن العربي، نعمل على نشره لاحقًا.

استمر الحوار مع الأخ محمد نحو ساعة ونصف. وطلب مني خلال النقاش، تأمين أرقام هواتف أصدقاء مشتركين في لبنان. وعدته بالسعي الى تأمينها، وحصل، وتمّ له ما أراد بعد حوالي 10 دقائق.
قبل أن ينتهي الحوار، سألته مجددًا عن حقيقة وضعه الصحي، ضحك كعادته، مؤكدًا لي أن وضعه الصحي جيّد جدًا، ولا داعي للقلق، وأنه ينتظر بفارغ الصبر الوقت الملائم ليزورنا في لبنان، البلد الذي أحبَّه من كل قلبه، كما قال، مستحضرًا بعض الذكريات الجميلة معنا ومع غيرنا من أصدقائه في لبنان، وهم أكثر ممَا يتوقع المرء. وقبل إقفال هاتفه، وعدني بزيارتنا في لبنان، في أقرب وقت، وفي وقت قياسي لا نتوقعه. رحّبت به قائلاً: تأتي الى بيتك، متمنيًا له السلامة، والصحة التامة.

وفي السابع من نيسان، وعند الساعة 11 و40 دقيقة، قبيل منتصف الليل، كتب الأخ محمد على صفحته الخاصة: الأخوة والأصدقاء الأعزاء.. أعتذر منهم أشدّ الاعتذار على عدم الردّ أحيانا، بسبب ضعفي ووهني وتعبي، إذ أجدني غير قادر على الحديث، ولو بضع كلمات. ولكنني في نفس الوقت أؤكد أنني بخير، وصحتي عمومًا لا تدعو للقلق… وأدعو الله أن يجنبكم شرّ هذا الفيروس الخطير.

كما كتب عند الساعة التاسعة و40 دقيقة من صباح 9 نيسان:

“لا بد مما لا بد منه. والمكابرة لا تجدي نفعا في كل الأوقات. الايام الأربعة الاخيرة تفاقمت حالتي الصحية بسبب الفيروس اللعين. ارتفاع حرارة وصل 8,5. سعال جارح، تقطع بالنفس، لا أستطيع الكلام إلا بصعوبة بالغة. صداع خفيف، استيقظت عند الفجر، صلّيت، وقررت الاتصال بالمشفى. جاؤوا بسرعة، وفحصوني وتأكدوا من الاصابة. وقرروا ضرورة نقلي للطوارئ في مشفى “سانت يوران”، وأنا الآن انتظر وصول سيارة الامبلانس، (الإسعاف).كان يجب أن أقدم على هذه الخطوة منذ أربعة أيام”. (أيّ أنه يوم اتصالي به في الرابع من نيسان، كان في حالة خطيرة وصعبة، ولكنه كان يخفي حقيقة وضعه السيء). ويتابع: “ولكن المكابرة والمصابرة والعناد، جعلتني أنتظر واحتمل الآلام والمعاناة. وأرجو الله ألّا يكون التأخّر سبّبَ لي مزيدًا من المفاقمة. قدر الله، وما شاء فعل.. أسأل الله أن يبعد عنكم هذا الوباء اللعين، وكل وباء أو بلاء.

هذا التصريح المكتوب للأخ محمد خليفة، أدخل الرعب الى قلبي، وبتّ في حالة قلق وتوتر دائمين، لأنني لا أعرف عنه أيّ خبر، وأيقنت أن حدثًا ما قد وقع، وأن الأخ محمد بات في مكان آخر، وهذه الفكرة كانت تروادني في كل حين، وكنت مكابرًا في رفض هذه الحقيقة غير المؤكدة، ولكن معلوماتنا عن كورونا، كانت كافية ليعيش أيّ شخص في معمعة الهواجس السيئة.

سارعت فورًا الى محاولة الاتصال بالأخ محمد، ولكن لم أوفق، فقد كان كان هاتفه مقفلاً. فزادت مخاوفي، وبدأت الأفكار الإيجابية حينًا، والسيئة أحيانًا كثيرة تأخذني يمينًا وشمالًا. حتى زوجتي شعرت أن حدثًا ما قد حصل، فأخبرتها أن وضع أخينا محمد لا يطمئن. وليس علينا سوى الدعاء له.

وعند الساعة 9 و26 دقيقة من صباح 12 نيسان 2021، كتب شقيق الأخ محمد، الأخ عبد الرحيم خليفة، على جدار صفحته الخاصة على موقع “فيسبوك”: “شقيقي وأستاذي وصديقي ورفيق دربي، الباحث والكاتب الصحافي محمد خليفة، في وضع حرج جدًا نتيجة إصابته بالفيروس اللعين. دخل في مرحلة الغيبوبة الكاملة في إحدى مشافي العاصمة السويدية/ استوكهولم. أدعو الله العلي القدير أن يشمله بعنايته ورعايته”..

انقطع التواصل مع الأخ محمد، واستعضت عنه بالتواصل اليومي مع شقيقه الأخ عبد الرحيم، مطمئنا، كما الكثيرين غيري، خصوصّا وانه كان على اطلاع دائم على وضع أخينا محمد الصحي، عبر أفراد أسرته المقيمين في ستوكهولم، قبل سفره الى السويد ليتابع وضع شقيقه أخينا محمد عن قرب، ويقف الى جانب أسرته، في هذه المحنة السيئة الذكر، والتي لم تكن نتيجتها لاحقاً سعيدة على الإطلاق.

وعند الساعة الثالثة و58 دقيقة في 22 نيسان 2021، كتب الأخ عبد الرحيم، على صفحته ما يلي: “تسليما بقضاء الله، وقدره، أنعي شقيقي وأستاذي وصديقي ورفيق دربي، الباحث والكاتب الصحافي محمد خليفة، الذي توفاه الله اليوم 22_04_ 2021 (في) العاشر من رمضان.. ترجل الفارس المناضل الوطني، والعروبي الصادق الحالم، بعد مشوار حافل بالعطاء والتضحية والصبر”.

وأرفق النصّ بصورة للأخ محمد، والى جانبها صورة تحمل ما يلي: “إنا لله وإنا إليه راجعون.. “.. يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”.. البقاء لله”.

لم أستطع تصديق ما قرأت، أنا الذي كنت أتجنب الاطلاع على صفحات “الفيسبوك”، خشية قراءة ما قرأت، والذي لا أريد له أن يحصل، وقد حصل، خصوصًأ في شهر نيسان، الذي اعتبره شهر الأحزان، منذ رحيل والدتي في 18 نيسان 1981، عن هذه الفانية الى دار البقاء. وبعد وفاة أكثر من شخص من معارفنا، منهم على سبيل المثال لا الحصر، زينب حمّود، إبنة خالي وعمّتي في آن، والتي غادرت هذه الفانية في 12 نيسان. إضافة الى المناضلين العروبيين السوريين: حبيب عيسى وتيسير الحاج حسن وميشال كيلو. الأمر الذي أدخل الحزن الكبير الى قلبي. وخاطبت نفسي قائلاً: إنه نيسان، شهر الموت، الذي لا أتفاءل به مطلقًا.
رحم الله الأخ محمد، وتلك الكوكبة من المناضلين الشرفاء، وكل من رحل في هذا الشهر، وغيره، بسبب جائحة كورونا الخبيثة.

* مدير تحرير “المدارنت” محمد حمّود

=======================

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى