تربية وثقافة

أخــــدانُ الـفـجــــــور!

وليد حسين الخطيب/ لبنان

خاص “المدارنت”..
الجهل نوعان: جهل بسيط وجهل مركّب، إلّا أنّ تذاكي اللبنانيين وتفذلكهم جعلانا ندرك أن للجهل نوعًا ثالثًا أشدّ خطورة من الأولَين وهو الجهل الفاجر. فالبسيط هو الذي يدلّ على أنّ صاحبه غير عالم بالشيء من دون زعم بأنه يعرفه. والمركّب هو الذي يدل على أن صاحبه غير عالم بالشيء مع جهله بأنّه يجهله وفي هذا قيل:

لمّا جهِلْتَ جَهلتَ أنّك جاهلٌ         جهلًا وجهلُ الجهلِ داءٌ معضلُ

أمّا الفاجر فهو الذي يسير أتباعه خلف أسيادهم على غير هدًى، فيتعصّبون لأقوالهم ولكلامهم ولآرائهم، مرّة بدافع الدين وأخرى بدافع الطائفية وثالثة بدافع السياسة ورابعة بدافع حمايتهم… وهكذا دواليك. فيكونون أخدانًا لهم في كل شيء – والخِدْن أو الخَدينُ هو الصاحب الذي يخادنك فيوافقك في كل أمر من دون مناقشة – بالتالي، يتجرّدون من جميع الحريات؛ حرية الفكر وحرية الرأي وحرية الكلام وحرية التعبير وحرية الموقف… ويردّدون كلام أسيادهم من دون تفكير أو دراية ويستميتون له ويرفعون دائمًا شعار: “بالروح بالدم نفديك يا زعيم”، ويفجرون في خصامهم مع الذين لا يوافقونهم ما يقولون، وفي هؤلاء قال الأديب الفرنسي فيكتور هوغو: “تبدأ الحرية حيث ينتهي الجهل”. وفي هذا النوع قلتُ:

إن لم يكن لكلامي صدًى في
دماغك، فاعلم أنّ الدماغ مفقودُ

واعلم أنّ تأثيره فيك كالمطّاط
مهما شددته إلى الوراء فهو يعودُ

ومهما جاد عليك الخيّرون بنصحهم
فأنت بالقبح دائمًا تجودُ

أأحمق أنت؟ وإن لا فما أنت؟
إذا رأتْك مرة، تصبح عقيمًا المرأة الولودُ..

من المعلوم أنّ الجهل يؤدّي إلى العبودية، لذا لن ترى الشعوب اللبنانية التي تسكن لبنان محرّرة حتى تتخلّص من الجهل المستحكم فيها ولن تفعل لأنّ من شبّ على شيء شاب عليه. وفي هذا المقام قال أفلاطون: “لو أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون مظلّات”.
يقول نيكولو ماكيافيلي: “إن محاولة تحرير الأشخاص الذين يريدون أن يظلوا عبيدًا أمر صعب وخطير تمامًا كما هو الحال مع استعباد الأشخاص الذين يريدون أن يظلوا أحرارًا”. وهذا القبول بالعبودية يؤكد ما قاله فريدريش نيتشه: “لا تُخدَع الشعوب إلّا لأنها تبحث دائمًا عمّن يخدعها، أي عن خمر يهيج حواسها، وإذا حصلت على ذلك الخمر فستكتفي بالخبز الرديء. النشوة أهم من الغذاء عندها. إنها الطُّعم الذي تبتلعه في كل مرة”. ويضيف: “أما أنا فقد ولَّيت ظهري للحاكمين عندما أدركت معنى الحكم في هذه الأزمان، وتأكدت أنه متاجرة بالقوة ومساومة الأوغاد عليه”. وفي هذا السياق، يقول الروائي الأميركي جيمس بالدوين: “الجهل المتحالف مع السلطة أخطر عدوّ للعدالة”.
لقد كنت في ما سبق أحاسب طلّابي على التفكير في الإجابة لا على الإجابة نفسها، حيث إنني أعتبر أنّ مَن يفكر قد يصيب وقد يخطئ، ولكنّه هو مَن يصنع قراره وفكره وشخصيته… ولا يأتيه كل هذا معلّبًا من شخص يستغلّه لغاية في نفس يعقوب. فإن أصاب يسعد بما هو عليه، وإن أخطأ فهو يتحمّل النتيجة ويحاول تصحيح ما أخطأ في شأنه.
المرعب في الجهل الفاجر، أنّه قد يتخطّى الفرد الواحد ليشمل شريحة واسعة أو فئة كبيرة من الناس فيصبح جمعيًّا، فترى الجميع يتكلمون بلسان واحد، الأمر الذي يجعل أيّ فكر – وإن كان مرفوضًا بالعقل والمنطق والعلم – مقبولًا لديهم، وهذا ما نعيشه اليوم في اللاوطن الذي نحن فيه. إنّ أي مكان يجتمع فيه الجاهلون مع الفساد والزعماء الفاسدين والكذب والسرقة والنهب والسلب والغش والنفاق والعربدة… يصبح اسمه لبنان.
هذا اللبنان الذي نتكلم عنه ليس لبنان إيليا أبي ماضي الذي أصبح من الماضي، وقد أنشد فيه قائلًا:
عاش الجمال مشرّدًا في الأرض ينشد مسكنا
حتى انكشفــتَ لـه فـألــقى رحلــه وتــوطّــنا
واستعرض الفــنُّ الجمالَ فكنت أنـت الأحسنا..

والأكثر رعبًا أن أصحاب هذا الجهل غالبًا ما يكونون مستفيدين من زعمائهم وفسادهم لأنهم أكثر فسادًا منهم، وهم الذين يطبّلون لهم ويزمّرون ويهلّلون… فالمسألة لديهم مسألة كسب على جميع الصعد. وهؤلاء يستميتون في الدفاع عن أسيادهم ضد من يقول كلمة في حق واحد منهم، وهذا الدفاع قد يصل إلى حد القتل والتصفية الجسدية، لأنهم تربّوا على أن يكونوا أتباعًا وتربّوا على الطائفية لا على المواطنية، وعلى أن الزعيم عندهم بمنزلة الإله لا يخطئ ولا “ينطق عن الهوى”. فمعركتهم مع مَن يخالفونهم معركة وجود، وهم في غالبيتهم يعرفون الحقيقة – وإن كانوا يمثّلون طبقات معينة ما بين أتباع مباشرين وكوادر وعامّة – إلا أن قولها ليس في مصلحتهم لذا تراهم يعرفون ويحرفون.
ليس هذا الأمر حكرًا على غير المتعلّمين الذين لم يكن لهم نصيب في العلم لسبب أو لآخر، بل قد يشمل الذين يحملون أعلى الشهادات في جميع المجالات، وهؤلاء أشد خطرًا على المجتمع، لأنهم يعرفون كيف يتلاعبون بالحقائق والوقائع، ويزوّرونها ويحرّفونها عن مواضعها ويستغلّونها في الفساد الذي يؤمّن لهم رفاه الحياة ورغدها، والأخطر من هذا وذاك، أنّهم غالبًا ما يبرّرون لأنفسهم ما يفعلون ويقتنعون به، من هنا تكون شراستهم في مواجهة مَن يخالفونهم ويخالفون أولياء نعمتهم.
من هنا، إنّ الشعوب التي ترضى بالجهل والعبودية وتؤلّه الزعيم سيلعنها التاريخ وينبذها، كأنّها لم تكن. لذا، إذا أراد أي شعب أن يعود إلى السكة الصحيحة، فعليه أولًا وقبل كل شيء أن يتخلّى عن الجهل ويتسلّح بالعلم الحقّ وأن يعي معنى وجوده ومعنى حياته، وأن يُنزِل الناسَ منازلها، وإلّا سيكون أفراده “كأنّهم أعجاز نخل خاوية”!

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى