مقالات

الاقتراب من الصورة.. ذكرى رحيل أحمد بن بلة!

الكاتب العربي الراحل محمّد خليفة/ سوريا

“المدارنت”/ كان أحمد بن بلة بالنسبة للجيل الذي أنتمي اليه، صورة كبيرة، تثير فينا شتى المشاعر الحارة والأفكار الملونة، من الوحي والإلهام، إلى الحافز والمنشط والمقوي!.
وكما يترعرع الطفل أحياناً على صورة أبيه المعلقة في صدر الغرفة فقد نشأنا وكبرنا تحت صورة بن بلة.
كان العصر منذ 1955 إلى 1965 كله عصر بطولة، ولست أخطئ في التعبير، وأنا أطلق، اسم العصر، بدلاً من الفترة أو الحقبة، على تلك السنوات القليلة التي تتجاوز بقليل العشر، إذا كان المقياس هو العدد… فلقد كانت تلك السنوات، عصراً كاملاً، عميقة، مزدحمة، مكتظة، خصيبة، بكل شيء عظيم أو كبير، وربما اتسعت بما يملأ قرناً كاملاً.
كان جمال عبد الناصر هو الإطار والخلفية، في ذلك العصر _ البعيد !.. أو تلك الصورة.
وبرموز أخرى، كانت مصر هي الإطار المكون من ذراعين طويلين مفتولين يحيطان بالوطن العربي من المحيط الهادر، الى الخليج الثائر…وكانت الجزائر هي أعظم ما تمخضت عنه الثورة العربية، من إباء وقوة وأصالة روحية وعقلية استنهضت الاسلام والتاريخ العربي، واللغة، أعظم وأروع استنهاض.
ثورة الجزائر – ومعها الثورة الأم في مصر – استطاعتا فعلاً أن تقتحما قلب العالم، وقلب العصر معاً. واستطاعت–مثلاً – معركة السويس، ومعارك الأوراس أن تقدما العرب الى العالم، من جديد، كأصحاب رسالة، ودور، كشعب حي يقف في مقدمة المسرح الكوني، لا في الصفوف الخليفة المظلمة، مع المهمل من الشعوب… واستطاعت تلك المعارك بالتحديد ان تكون _ولعدة سنوات_ ضمير العصر… هكذا قال سارتر وسيمون، وغيفارا وبرتراند راسل، وفانون ورودنسون وناظم حكمت ونهرو وآخرون… وقبل هذه الرموز والنجوم الكبيرة كانت الشعوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية… بل وفي أوروبا بالذات… كانت تجد انسانيتها المعذبة، وروحها الوثابة ممثلة في ثورة الجزائر، وفي قدرتها الخارقة على التحدي والتمرد وإظهار العنفوان والكبرياء…فما بالكم بنا نحن الذين نشأنا ونمونا داخل الإطار، وتحت الصورة، وقريباً من الوهج والسطوع ؟!
كنا في المدرسة، آنذاك، وكانت الجزائر نشيدنا الصباحي اليومي… ونحن نردد هادرين:
قسماً بالنازلات الماحقات____ والدماء الزاكيات الطاهرات
أو نحن نجلجل في صوت جماعي قويّ وجميل:
الله أكبر فوق كيد المعتدي…
وكان – ما بين قوسين – أقل نشيد نردده في تلك السنوات هو نشيدنا الوطني- القطري- !.
وبدون مناسابات في تلك الأيام، فقد كانت بحد ذاتها مناسبة على طول التاريخ العربي الحديث، كنا ندخل الى حجرة الدرس عند الثامنة صباحاً، بذهن صاف كالمرآة، وخلايا متفتحة لنجد ان الدرس الأول الذي يلقيه المعلم هو بطولات الثورة الجزائرية، وقصص أحمد بن بلة وجملية بوحيرد، وزهرة بوطريف، وحكايات عن أبطال في سن العاشرة والخامسة عشر يخلقون الأساطير ويحفرونها على حيطان حي القصبة، وصخور الاوراس وأحراش بلاد القبائل وغاباتها…
كانت هذه الفاتحة اليومية المؤلفة من النشيد ثم الحكايات، تفتح آفاق خيالاتنا بلا حدود، وتغرسها غرساً بالمعاني والاشراقات.
ولعلني لا أبالغ إذا قلت أننا ونحن الصبية الصغار الذين يفترض بهم انهم مفطورون غريزياً على الاندفاع الى اللعب واللهو، كنا ونحن نقف في باحة المدرسة، أو ونحن نتجمع في ساحة الحارة لم نكن نلعب أو نلهو بقدر ما كنا نتناقل بين بعضنا البعض ما سمعه كل منا في بيته وفي مدرسته وكنا نتبارى في ذلك، ونحس بمتعة ما بعدها متعة، وكان الحديث بالطبع واحداً حول تلك البطولات اليومية للثوار الجزائريين.
وكنا في تلك الأيام لا نعرف، طبعاً، التلفزيون ولا الفيديو، وحتى السينما، كانت عزيزة المنال، ولكن خيالاتنا المنطلقة بتلك الحكايات كانت تصور وتحرك لنا المشاهد والمناظر الحية من قلب المعارك، الى درجة تفوق في تأثيرها – ومتعتها – بكل تأكيد كل الأجهزة الفنية الحديثة التي أصبحت بمتناول الأطفال للهو واللعب… وقد لا يعرف الجيل الحالي أننا لا نحسده على متعه الاكترونية، فضلاً عن أنه شتان ما بين الأثنين… بين ماغرسته فينا تلك الحكايات البسيطة، وما تغرسه في الأجيال الجديدة الألعاب و الأفلام الأميركية، من قيم ومعان مريضة لا تنمي في الطفل الا تفكيراً مسطحاً.
ولست أنسى وأنا واحد من ذلك الجيل، ان معركة القناة –مثلاً – ومعها مشهد الأبطال الجزائرين تشكلان القاع في ذاكرتي، فهما أول ما انطبع وارتسم على صفحات ذاكرتي البيضاء… ومازالا الى اليوم المشاهد الأولى والأسماء الأولى التي يتألف منها سيناريو ذاكرتي وأرشيفها…
ومن بين كل تلك الصور والمشاهد والمعاني والبطولات والحكايات، كان أحمد بن بلة يمثل لنا الرمز المجبب الذي لا يفارق مخيلاتنا …ربما بسبب الكمية الهائلة من البراءة، التي ينضح بها وجهه…وبالتالي–ربما – كنا نتصوره أقرب الينا نحن الصغار كأنه واحد منا وبالتالي –أيضاً – ربما كنا نراه يعبر عنا !! وأننا نستطيع ان نكون أبطالاً _ مثله_ رغم وجوهنا البريئة والصغيرة، ما دام هو بوجهه البريء الجميل يقود تلك المعجزة.
وكانت مسحة الحزن البسيطة على وجهه في تللك الأيام مقترنة مع أخبار الشهداء وقصص التعذيب الجسدي الذي يمارسه الفرنسيون المتوحشون، ترهف مشاعرنا المرهفة، وتبريها وتجعلها حادة كأقلام الرصاص التي نكتب بها، وكانت – من ناحية أخرى – تزيد من شاعرية هذا البطل الذي يجمع بين البراءة والقوة، ويوحد بين العظمة العملاقة والحزن الانساني.
وربما كانت–بالتحديد – صورة أحمد بن بلة بعد اختظاف طائرته من الجو واعتقاله، وهو يقف بين رفاقه تكبل يديه الأصفاد، وفي وجهه حزن أسطوري قوي ومشع، ربما كانت هذه الصورة بالذات هي الأكثر التصاقاً في أذهاننا، بما تجمعه من ملامحه. لقد تمثل لتا في تلك الصورة نبياً جريحاً ولكنه كان حتى وهو على تلك الحالة من الضعف والألم، يظهر لنا أقوى وأعظم من تلك الكائنات المدججة التي تحيط به وبرفاقه.

***
ثم تنتقل الكاميرا الداخلية في رؤوسنا بسرعة الى صورة أخرى بارزة في أرشيف الذاكرة.
صورته مع عبد الناصر واقفين في السيارة المكشوفة يبتسمان ابتسامة واسعة تكاد تنطق بكل شيء… والجماهير تحيط بهما إحاطة العباب والموج بالزورق الصغير.
كانت الجزائر قد استقلت من أول استعمار استيطاني على أرضنا العربية، بعد ملحمة دامية من الجهاد الكبير…وأحمد بن بلة يبتسم إبتسامته الجانبية الخاصة به التي التصقت بدورها بالذاكرة مقترنة به…ابتسامة جانبية تضيق على اليمين، تقابلها إغماضة جانبية من عينه اليسرى!.
صورة البطل كبرت…ولكن ملامح الصدق والطهارة لم تغب، بل تعززت عندما وقف أمام الناس يبكي وهو يجيب على سؤال، قائلا:.. “نعم أنا عربي… وأنا ناصري…”.
لم نكن معتادين، ولم نعتد حتى الأن، على صورة رئيس للجمهورية يبكي بهذا القدر من البساطة والصدق، لم نعتد على صورة البطل– الانسان، وعلى صورة الحاكم– الرقيق، أو أن يكون بيننا، – والأصح فوق رؤوسنا– سلطان يبكي ويضحك، أو يفرح و يتألم كالبشر !! صورة الحاكم عندنا، هي – فقط – صورة العسكري المتمنطق بالمسدس، المسربل بالبدلة العسكرية، الغائص تحت النجوم والنياشين المخيفة، ينتعل حذاء ثقيلاً يقرع به الأرض قرعاً…وكأنه يهددنا سلفا!
صورة الحاكم الذي يضحك بحساب، ويتكلم بحساب، ويطل علينا من فوق السحاب، أومن من خلف حجاب، ويفصله عنا ألف حاجب وحجاب!
وهكذا كان أحمد بن بلة أول (رئيس) عربي يبكي على مرأى من الجميع، كما كان عبد الناصر أول (رئيس) عربي يضحك وينكت كأي مواطن مصري عادي.
وكان كلاهما لا يخضع للحساب أو للحجاب ولو كان اسمهما البرتوكول… كلاهما كان يحمل في داخله طفلاً مثلنا، ومثل الأخرين، ذا أعصاب حارة ومشاعر دافئة وعضلات وجهه تتحرك بتأثر رياح الحياة اليومية الباردة أو الساخنة بصورة عادية بلا أي مونتاج أو إخراج…ولم تقتصر الصورة على هذا الجانب الأنساني، وإنما شملت ملامح بن بلة الجديدة، ملامح الأشتراكي… المتواضع… الفلاح…الفقير الذي يظهر في كثير من الأحيان يرتدي ذات البدلة…وهي تلك البدلة الكاكية التي اشتهر بها بعد الاستقلال…
وشملت الصورة ملامح المناضل الذي لا يتوقف نضاله عند حدود قطره… أو بلاده…أو أمته…أو حتى قارته… فهو المناضل الجزائري… العربي في آن… وهو المناضل الأفريقي…والآفرو– أسيوي، وهو كذلك الأميركي والأوربي، وهو قبل شيء المجاهد الاسلامي…
وبرزت في نفس الفترة أيضاً، ملامح بن بلة المثقف والمفكر الذي يحاول ابتكار نموذجه الخاص، ويحاول استلهام عبقرية شعبه وبيئته وتاريخه، وبرزت –هذه–أكثر ما برزت في الأفكار التي طرحها على منظمة التضامن الآفرو –آسيوي والتي كان يستعد لتحويلها الى برنامج عمل في أثناء القمة التي كان محدداً لها أن تنعقد عنده في الجزائر في أواخر شهر يونيو 1965… ولكن الضربة الغادرة سبقت الجميع…وهي أفكار تتصدى للواقع العالمي من أساساته التاريخية الأولى وتشمل كل البناء العالمي وصولا الى السقف الدولي القائم حالياً على صعد التشريع والمؤسسات الدولية والاحتكارات الاقتصادية والقوى العسكرية والحدود الدولية المرسومة بالدبابات والجيوش والآساطيل.
كان بن بلة الذي قاد تنظيماً سرياً متيناً في بداية الخمسينات، وفجر به ثورة نوفمبر…هو نفسه هذا الأحمد بن بلة الذي يحاول تكوين حزب خاص في منتصف الستينات يضم فيه الثوار والأحرار الكبار في العالم الافر–آسيوي ليفجر به ثورة الفقراء والمضطهدين على النظام العالمي.

***
ومرة ثانية تنتقل الكاميرا في ذاكرتنا لنتوقف على الصورة الثالثة لأحمد بن بلة.
صورته وهو يعتقل، وينقل إلى السجن عام 1965، وهي صورة لم تسجلها الكاميرات الآلية، وان كان لخيالنا ان يتصورها ويكونها من تلقاء ذاته.
وأذكر يومها بالدقيقة واللحظة… كما أذكر على سبيل المثال عام 1956 وعام 1962… لقد وقفت أبكي في الشارع وأنا أسمع من أجهزة الراديو العالية الصوت والتي كان الباعة وأصحاب الدكاكين والمقاهي يضعونها في محلاتهم لإسماع المارة والسابلة… وأول ما خطر لي بين الدهشة والذهول في ذلك اليوم وقبل انبجاس الدمعات…انني سأسرع لأرى كيف سيكون حال أخي الأكبر في هذه اللحظات…وهو الذي يجب بن بلة أضعاف حبي أنا… وسرعان ما تذكرت أن أخي الشاب هذا كان قد قضى في حادث مؤلم قبل يومين اثنين فقط!

الراحلان الرئيس أحمد بن بلة والكاتب محمد خليفة

وانبجست الدموع حارة وغزيرة على وجهي النخيل، حتى ان بعض المارة استوقفني ليسألني ان كنت أحتاج الى مساعدة ما!! في تلك اللحظات التي حفرت معالمها في أغوار نفسي العميقة اختلط فيها الحزن على أخي بالحزن على بن بلة…
واستمرت الصورة الجديدة المشوبة بالألم النفاذ كالشفرة الناعمة التي تغوص في اللحم والعظم قبل أن تتمكن الأعصاب من نقل الوجع من مركز المخ الى الجسد!
كيف يعتقل الرجل الذي حقق الاستقلال– المعجزة لبلاده بمجرد ان يتحقق هذا الاستقلال؟! ويسجن عن الأرض التي ضحى سنوات عمره لكي يرى الحرية تنتشر على كل شبر منها؟
ماذا نقول عن السجون الفرنسية التي اعتقل فيها سسنوات وسنوات
دعونا هنا من تباين الأفكار السياسية والايديولوجية والاتجاهات، ودعونا نسأل أين هو الوفاء وأين هي الانسانية البسيطة؟!
للمرة الاولى، عرفنا ونحن في سن اليفاعة أن هناك في هذه الدنيا أشياء اسمها الغدر والخيانة والنذالة… وربما نأسف اليوم لاستخدام هذه الألفاظ، ولكن هكذا تجلت لنا صورة الانقلاب الذي قاده بومدين على البطل أحمد بن بلة!! وتكرست هذه المعاني البذئية في مخيلتنا مرتبطة باسم الرجل الذي صنع الانقلاب، عندما تناقلت وكالات الأنباء خبراً مفاده ان والدة الرئيس– السابق – أحمد بن بلة مريضة مرض الموت ومغ ذلك فإن السلطات الحاكمة لم تسمح لها برؤية ابنها…
واكتمل الخبر عندما توفيت المرأة الجليلة فعلاً…ولم يسمح أيضاً لابنها بأن يراها أو يسير في وداعها قبل أن يوارى جثمانها في التراب…
ما مصدر كل هذا الحقد على الانسان – البطل؟!
وما جريمة بن بلة حتى يستحق كل هذا العقاب؟.
ولعل جزءاً من جيلي تكونت عنده في تلك الأيام بالتحديد فكرة إيثار الابتعاد عن العمل الجماعي والسياسي والوطني لأن النتيجة في الاغلب ستكون القتل أو السجن…
وربما تكونت منذ تلك الأيام وبسببها فكرة ان ينعزل كل منا يعيش في سلام بعيداً عن النضال والكفاح والمتاعب التي (لا طائل منها غير…) وهي الفكرة التي نرى اليوم تجلياتها وآثارها بادية، ظاهرة، عامة، على سطح الحياة العربية، سواء بفعل تلك الحادثة المشؤومة أو الحوادث اللاحقة التي تعرضت لعبد الناصر أيضاً بعد وفاته وحاولت ان تطعن في أمانته المعهودة وطهارته الشديدة…

***
بعد ذلك بسنوات…وعند أول مرة أنخرط في العمل السياسي– السري – أذكر انني كلفت من قبل مسؤولي في التنظيم أن آخذ ورقة مكتوب عليها نص برقية موجهة الى الحكومة الجزائرية تطالب بالافراج عن أحمد بن بلة…وكلفني أن أقف في وسط الميدان الرئيسي في مديتتي، وهو ميدان مكتظ بالناس طيلة ساعات النهار – ومكتظ بطبيعة الحال بعناصر الأمن والمخابرات !- وأن أجمع تواقيع الناس على تلك البرقية الاحتجاجية … وقد قبلت أولى مهامي النضالية بسعادة وشجاعة وذهبت الى النقطة المحددة… وخلال دقائق قليلة جمعت أكثر من مائة توقيع، وانسحبت طافحاً بشعور لذيذ… لأنني أديت شيئاً تجاه الرمز أو الصورة التي كانت معلقة على الدوام في فضائي الداخلي… ولأنني رأيت الوفاء في وجوه الناس الذين استجابوا للتوقيع…
وقد ظلت هذه الصورة مثبة وحية في داخلي رغم ما تراكم فوقها من سنون، ومن أحداث جسام ومن فواجع وكوارث بعضها أشد الماً ووجعاً من الشعور الذي رافق اعتقال بن بلة.

 جُرح عبد الناصر في عام 1967 وأي جرح ؟!
واستفرد وحيداً بلا رفاق كبار …لا بل أحيط بالشامتين الجبناء في مؤتمر الخرطوم… ومع ذلك فقد رضي عن قناعة قدره وعض على جرحه، وخنق في صدره كل أوجاعه الجسدية والروحية ثم استطاع أن ينهض واقفاً واستطاع أن يتطاول من جديد وبأسرع مما توقعه الخبراء أو كومبيوترات القياس على السواء… نهض واقفاً واستعاد قوته…ولكنه في هذه اللحظات ارتفع الى جوار ربه!
وانهالت وانهارت الفواجع من بعده….في مصر وفي فلسطين وفي لبنان… وفي كل قطعة أرض من الوطن العربي… وأمسك بزمام الأمة المنكوبة أرخص الرجال… ولست أدري سلفاً، ماذا سيكتب التاريخ عن عصرنا، وعن جيلنا، ولكنني لا أشك انه سيقول ان هذا الجيل عاش عصرين ضخمين هائلين… ورأى ما لا يرى في مئات السنين بالمقياس العددي…
أقول من بين كل هذه الكوارث والفواجع، بقيت حادثة أحمد بن بلة، متميزة بنوع من الألم خاص…انه الألم الممض الذي يجرح القلب كالشفرة ، ويغوص في العظام كالروماتيزم الحاد…
وظلت الصورة حية ومثبتة على الجدار الداخلي، للنفس، يجيء في كل فترة ما يمسح عنها الغبار…حتى جاءت حادثة موت هواري بومدين، بتلك الطريقة الغامضة الغريبة المرعبة والتي لا يجوز معها الا استذكار قدرة الله وجبروته وشدة انتقامه ومكره!
ثم عادت الصورة المثبتة للرمز المعتقل في داخل بناء معزول قرب العاصمة الجزائرية الى الخروج بلاده وشعبه والينا…وكان أول ما جذبني الى أحمد بن بلة الخارج من السجن كلامه حول الثقافة، واعتبارها قبل كل شيء وأساس كل شيء من التكنولوجيا الى الزراعة ومن العلوم الى الصناعة… لأكثر من سبب، وبالذات لأنني تكونت على القراءة الأدبية والثقافية، فقد كنت أشعر لسنوات بأهمية العامل الثقافي في الحياة، ودون أن أقدر بالطبع أن أصوغ أفكاري التي كانت مجرد رؤى سائلة – ان جاز التعبير – أو أشياء تطوف في ذهني ولا أتمكن من تحديدها بعبارات متماسكة

محددة في أثناء حواراتي الطويلة من أجل الاقناع بها… بالمقابل كنت أرى، وخصوصاً في صفوف العمل السياسي والتنظيمي العربي، وطيلة عشر سنوات أن هذه الفكرة التي أومن بها أشد الايمان، والأساسية في الفكر، هي فكرة بعيدة عن ذهن العمل السياسي العربي، وكنت أشعر بالخيبة والأسى لذلك… وخصوصاً بعد كل مرة كنت أخرج فيها من نقاش أو من محاولة لطرحها من دون أن أجد أستجابة لها…
كان ذلك حتى طرح أحمد بن بلة الفكرة. وفجأة رأيت ان ما لم أحسن صياغته وتقديمه يطرح بنجاح من جانب العبقري الخارج من السجن. وشعرت بالاعتزاز لأن الفكرة أصبحت مطروحة على هذا النظاق الواسع يدفعها ويحركها مفكر بهذا الحجم والقدر… وقبل ذلك–وبعده – شعرت أن الأشياء بدأت تستقيم وتقف على رجليها بعدما كانت مقلوبة على رأسها لسنوات طويلة ونحن نحاول ان نستوعب كل شيء دون أن ندرك بأن حسم الاشكالية الثقافية مفتاح المفاتيح وزر الأزرار في التنمية والتكنولوجيا وفي الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي على السواء.

وأخذت صورة بن بلة تبرز من جديد، وتتأطر من جديد. اختفت منها بعض الخطوط والملامح القديمة، وانحفرت بعمق اكبر الخطوط الفكرية على جبهته بعد أن غاب عن عيوننا خمس عشرة سنة مليئة بالنتن والعفونة والروائح الكريهة… وهذه هي بالضبط وبدقة أبرز سمات المرحلة الماضية، مرحلة السبعينات.
لقد فسد كل شيء، وتغفن وأنتن وفاحت رائحته… الرجال قبل الأشياء، والثورات قبل العروش والأفكار قبل الكلمات.
أمسى العفن والرائحة الكريهة – على سبيل المثال – من سمات عدد كبير من الرجال، الساسة والقادة والمفكرين والأدباء والفنانين والثوار ورجال الذين والمصلحين!
وأحياناً بتنا نرى هؤلاء وقد تعفنوا من الداخل وفسدوا وماتو وتفسخوا
وعجت روائحهم السامة وهم مازالوا يتحركون ويقودون ويتناسلون
ويضحكون ويرسمون بأصابعهم شارات نصر –نصر علينا – مقرفة !!! وأحياناً نرى اللغة ذاتها أصبحت هي الأخرى ممطوطة ورخوة ومعتصرة من كثرة الاغتصاب والاستعمال… وفاحت من حروفها المطلية بالمكياج رائحة كريهة كتلك التي تفوح من المخادع والأسرة!
الأشياء كلها بهتت… وفقدت أي لون وأي بريق، وأي إغراء… بعض الرايات والأعلام صار كممسحة الأحذية الوسخة… وبعض (الثورات) صار يثير الغثيان أكثر من تلك العروش والكروش الرجعية الكريهة… أغلب الايديولوجيات أصبح كالعلامات التجارية الفارقة… لا أكثر!
تأكلت الأشياء وأصابها السوس بالنخر، فتقعرت وتجوفت وما زالت واقفة… انه زمن فظيع ومريع على كافة المستويات…وبالذات على مستوى الرجال…
ولكن لَم الاستطراد في وصف الحقبة المعونة، حقبة السبعينات؟
لشيء واحد، هو القول، بأن أحمد بن بلة كان خارج هذه الحقبة… ولذلك فلم يتعفن ولم ينتن وإنما حافظ على بريقه وتوقده وإشعاعه.

كان في غيابة السجن؟
بلى، ولكن كان في منأى عن أي لوثة أصابت المفكرين أو تلوث أصاب الثوار والقادة والسياسين بالنفط والقطران.
وأعلم علم اليقين أنه لا يجوز تفسير محنة (السجن) بهذا المعنى الايجابي… أعلم ذلك ولكن قد يكون ذلك من إرادة الله. والمهم أن أحمد بن بلة كان في رحم الجزائر، وكأن روح الأمة استعادته اليها وخبأته لتحميه من السيول القادمة، والزوابع الآتية… والتي هبت علينا بالفعل بالسموم طوال الفترة الطويلة التي غاب فيها عنا.
وكنت أقول لنفسي، إذا سلمنا جدلاً أو فرضاً بهذا (النهج) فإن ذلك يستتبع ان تكون مرحلة الانهيار قد شارفت على النهاية… بينما لا نرى أمامنا (يابسة) لنرسو عليها… وفي أحيان أخرى أقول إن أحمد بن بلة هو علامة الخلاص… واستعادة لمرحلة مضت دون أن تنتهي!
بن بلة استعادة من مرحلة الصعود العربي… وانه عائد لتوه من هناك بدون المرور عبر مستنقعات السبعينات، يحمل في ملامحه صلابة وبأس تلك السنوات العظيمة… حين عاد نظيفاً طاهراً بلغته وأفكاره، وكذلك بإرادته وشبابه، ألحت علّي تلك المشاعر والخواطر، وأنا أتأمل صورته الجديدة من جديد..
لم يكن هناك أحد قبل بن بلة قد غاب عنا – لأي سبب – إلاّ وعاد متغيراً… وملامح السقوط عليه، تفوح منه رائحة النتن والسموم، ولذلك كان بن بلة بشارة مميزة… وربما كان هذا كله أقرب الى الحلم… ولكن من حقنا أن نحلم، ومن حقنا أن نتفاءل… بل من واجبنا –فيما أظن ان نكون قادرين على الاقتراب من الحلم والصورة..
=======
* الجزء الأول من مقدمة كتاب الراحل محمد خليفة: [حديث معرفي شامل – أحمد بن بلة] الصادر عن دار الوحدة – لبنان/ بيروت 1984.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى