مقالات

في ذكرى الانفصال والرحيل.. الديموقراطية كخيار ضروري..

أحمد مظهر سعدو/ سوريا

“المدارنت”..

مدخل
الديموقراطية نعيد تأسيس المشروع القومي العربي النهضوي، والوقوف مع ثوابت الأمة العربية وأهدافها والتمسك بقضيتها المركزية فلسطين. وما يمكن أن تعطيه من جديد، دفاعاً عن تاريخ الأمة وإمكانية نهوضها بعد كل هذا التعثر الذي نراه، وذاك التراجع الذي نعيشه، ولنعود ونؤسس بالديمقراطية السياسية والاجتماعية وعياً قومياً ديموقراطياً جديداً في مجتمعاتنا العربية كمنطلقات للنهوض، جديدة ومتجددة.
وإذا كان هناك الآن من يحاول أن يشكك بالمرحلة الناصرية والتجربة التي قادها جمال عبد الناصر، وهؤلاء المتواطئين على محو مآثر تلك الحقبة الناصرية من ذاكرة شعوب الأمة، وما نهضت إليه وعبره همة القيادة الناصرية في سنواتها الثلاث الأخيرة بعد هزيمة 1967، وما حركته من قدرات الأمة على التقدم والمواجهة، ومن قدرات شعوبها على العطاء والتضحية.. فإن التمسك بالمشروع السياسي الديموقراطي الآن، وإعادة فهم الناصرية على أرضية ديموقراطية، إنما يؤسس بحق لمرحلة جديدة في التاريخ العربـي، ورسم مستقبلات هـذه الأمة، على أسس جديدة، ليكون ذلك مدخلاً إلى ديمقراطية أوسع وأعمق، بحيث نتكئ على ما أنتجته التجربة الناصرية من ديموقراطية واعية للواقع العربي، متطلعة في نفس الآن إلى إزالة آثار العدوان، وخاصةً ما سمي في تلك المرحلة بـ( ثورة ثقافية ديموقراطية) لنشارك فيها، ومن خلالها كمشاركة عامة لطلائع الأمة ومجتمعاتها في مراجعة نقدية لكل مسارات الثورة القومية، ولكل مقومات مشروع نهوضنا القومي، ومن أجل إرسائه على قواعد ثابتة من الديموقراطية والتقدم والإرادة الحرة للشعوب.
وهي دعوة حقيقية منعتقة من كل المسبقات أو المحددات القسرية التي تمنع الفكر العربي من الحركة والتطور.. فلا ركائز في الفكر سوى ثوابت الأمـة الأساسية، أما متغيراتها فلابد من الغوص فيها، وإعادة رسم ملامحها على أسس عصرية جديدة ومتجددة، وقادرة على مجابهة المتغيرات الجديدة، من دون أن نلزم أنفسنا بصياغات عفى عليها الزمن وتجاوزتها المرحلة، وبدا أنه من الضرورة بمكان العمل من أجل رسمها على محددات آنية عصرية حديثة .. فالناصرية مشروع المستقبل نعم.. لكنه المشروع القومي الديموقراطي، بعيداً عن (الستاتيك) الذي وضعنا داخله البعض، عن غير وعي ودونما إدراك لمنطلقات جديدة كان قد آثر الدكتور الراحل والمفكر  القومي الناصري جمال الأتاسي على إعادة صياغتها من جديد، دون أي خوف من عدم فهم من هنا، أو عدم وعي من هناك، فما جرى من مرور للمياه تحت الجسر كثيرة وغزيرة، ولابد من إدراكها وإدراك ماهيتها، دون ارتهان إلى أطر لم يعد بالإمكان التمترس عندها، أو التحجر من خلالها.. وبالطبع دون تجاوز التجربة الناصرية بجوهرها الديمقراطي القومي الحديث والقابل للتجدد باستمرار.

مع (الميثاق) والديموقراطية
لا يجـوز البحث  فـي ماهية الديموقراطية في التجربة الناصرية، دون المرور علـى (الميثاق) الذي أنتجته المرحلة الناصرية، والذي كان دليل عمل مهم في مرحلة الستينات وما بعدها، ارتكزت عليه المعطيـات الإيديولوجيـة لتلك المرحلة .. واستوعبته طبقة المثقفين ، وتوقف عنده الكثير من الباحثين والكتاب والمتابعين للفكر السياسي العربي في تلك الآونة،  فالميثاق الذي أعلنه جمال عبد الناصر كدليل لمرحلة لا تتجاوز العشر سنين يتوجب بعدها على المفكرين العرب إعادة صياغته وتطويره، فهو ما يزال يحمل الكثير من المؤشرات التي ترسم ملامح التجربة الناصرية الفذة التي  طبعت المرحلة برمتها، ووسمتها بما جاءت فيه من أبعاد فكرية فلسفية دأبت على ملامسة الحالة العربية السياسية بمجملها.
فالديموقراطية حسبما جاء في الميثاق: “هي الترجمة الصحيحة لكون الثورة عملاً شعبياً.. إن الديموقراطية هي توكيد السيادة للشعب، ووضع السلطة كلها في يده وتكريسها لتحقيق أهدافه”.
وهكذا اشتغلت القيادة الناصرية على تكريس ذلك عمليا، عبر كل مراحل حياتها السياسية باتجاه تحقيق أهداف الناس فعبرت بصدق عن آمال وطموحات الناس كل الناس، وليس في مصر فحسب بل في كل أصقاع الوطن العربي الكبير، فكان صوت عبد الناصر في المذياع أثناء إلقاء خطاباته يجذب جموع الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، كما لم ينجذبوا إلى سواه من قبل، ولا من بعد، وهكذا كانت الديمقراطية عملاً شعبياً حقيقياً لدى القيادة الناصرية ممثلة بالقائد جمال عبد الناصر.
وقد اعتبر الميثاق: أن “الديموقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية، ولا يمكن الفصل بين الاثنين إنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب”.
من هنا كانت النظرة الناصرية لمسألة الحرية، وهكذا استوعبت الناصرية الأداة التطبيقية للحرية وهي الديموقراطية، فاعتبرتها الحرية السياسية دون أن تحصل أية عملية تناص بينها وبين أي أفكار خارجية أو مستوردة ناهيك عن المفهوم الواسع والعربي الذي تمسكت به قيادة عبد الناصر لمسألة الاشتراكية التي أكدت على أهمية طريقها العربي المستوعب لإشكالات المجتمعات العربية، والبعيد عن النقل الجاف وغير العلمي لمسبقات أو نظريات قد لا تتوافق مع الخصوصية العربية في مصر أو في سوريا أو سواهما من أقطار الوطن العربي، تأسيساً على ذلك قال الميثاق: “من ثم فإن الحرية السياسية، أي الديموقراطية ليست هي نقل واجهات دستورية شكلية، كذلك فإن الحرية الاجتماعية، أي الاشتراكية ليست التزاماً بنظريات جامدة لم تخرج من صميم الممارسة والتجربة الوطنية”.
وقد ربط عبد الناصر بين المسألتين الاجتماعية والسياسية في موضوع الديموقراطية وربط التطبيق العملي للديموقراطية كحق التصويت بلقمة العيش عندما يقول الميثاق “إن حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش، إن حرية التصويت من غير حرية لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة وأصبحت خديعة مضللة للشعب”.
بهذا التفسير كانت الناصرية، ترسل نقداً مزدوجاً وهو طريقها للاستيعاب كما قال لاحقاً الدكتور الأتاسي في كراس (الحوار) عندما تمت الإشارة إلى أن النقد المزدوج للرأسمالية والماركسية لابد منه ليكون طريقاً مهماً وأساسياً لاستيعاب هذه التجارب والعمل على الاستفادة منها بقدر ما يمكن لحاجات المجتمعات العربية دون أخذها كما هي، بل الغوص فيها وتنميطها لنستطيع إقامة ديمقراطية ذات طابع عربي، ولندرك أن لقمة العيش وربطها بالرأسمالي أو الإقطاعي تفقد الممارسة الديموقراطية قيمتها ومعناها الحقيقي وتصبح مجرد شكل براق وليس أكثر من ذلك.
وقد أشارت الناصرية، إلى ذلك عندما أكدت في الميثاق، أيضاً، أن ”المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات إلا إذا توافرت له ضمانات ثلاثة:
– أن يتحرر من الاستغلال في جميع صوره.
– أن تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية.
– أن يتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل في حياته.
– بهذه الضمانات الثلاث يملك المواطن حريته السياسية ويقدر أن يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي يرتضي حكمها”.
كما أردف الميثاق متابعاً في مسألة النقد المزدوج عندما قال: “إن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات، إن الديموقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب.. سلطة مجموع الشعب وسيادته والصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله أو إنكاره وإنما ينبغي أن يكون حله سلمياً في إطار الوحدة الوطنية، وعن طريق تذويب الفوارق بين الطبقات”.
وهو هنا يغمز من قناة ديكتاتورية البروليتاريا ويناقض  (ديموقراطيتها الشعبية) أو هيمنة أية طبقة على سائر طبقات الشعب، كما أنه ومنذ بداية الستينات كان سباقاً في ملامسة المسألة الوطنية والوحدة الوطنية التي تجمع الجميع من أجل الوطن وبالتالي، فإن على عاتق كل فئات الشعب العمل من أجل رفعة الوطن، ومن ثم فإن من حق الجميع المشاركة في السلطة، أو المشاركة في حق الانتخاب والتصويت، دون القبول بدكتاتورية لفئة أو طبقة ما، مهما علا شأنها أو طاولت مساحتها من خريطة الوطن الصغير أو الكبير.. بالإضافة إلى ذلك فإن نظرته لحل الصراع سلمياً بين الطبقات، إنما يؤكد النظرة التوحيدية الحرياتية الواعية لأهمية ودور الجميع على أنهم جميعاً يشكلون أجزاء أساسية في (الموزاييك) السياسي الوطنـي.
وفي سياق رفض عبد الناصر سيطرة أية طبقة، وبعد أن عمل عملياً على إسقاط الطبقة التي كانت مهيمنة ومسيطرة على مقدرات الشعب المصري وهي تحالف الإقطاع ورأس المال المستِغل، فقد راح عبد الناصر يدعو إلى صيغة من التفاعل الديموقراطية اتكأ فيها وعبرها على فكر محلي عربي مبدع وضروري ونابع من الواقـع، وكذلك علـى فكر عالمي متقـدم كـان قد طرحه المفكر الإيطالـي (غرامشي) ومن ثم اشتغلت عليه التجربة اليوغسلافية في ظل قيادة (تيتو) وهي فكرة (تحالف قوى الشعب العامل) فقد أكد الميثاق أنه “لابد أن ينفسح المجال بعد ذلك ديموقراطياً للتفاعل الديمقراطي بين قوى الشعب العاملة، وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية.. إن تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل هو البديل الشرعي لتحالف الإقطاع مع رأس المال المستغل، وهو القادر على إحلال الديمقراطية السليمة محل الديمقراطية الرجعية”.
ويبدو أن صيغة التحالف ديموقراطياً وفي تلك المرحلة على الأقل، كانت الصيغة الأنضج والأقرب إلى واقعنا العربي والمعبرة أيما تعبير عن استنباط الحلول في الواقع العربي وإشكالاته.. وإن كان تحول التحالف إلى حزب سياسي في النهاية لم يعد مقبولاً الآن كصيغة ديموقراطية ممارساتية في ظل وجود فكر تعددي على مستوى التجسيد الحزبي، لكن صيغة التحالف التي طرحها عبد الناصر في تلك المرحلة كانت معبرة بصدق عن واقع المجتمع المصري والعربي برمته، وكانت بديلاً حقيقياً ديموقراطياً عن الحالة التي كانت مسيطرة من قِبَلْ رأس مال وإقطاع يستنزف خيرات البلد، ويتحكم بمصائر الناس، ويلغي أي دور للمواطن الفقير، وهو الذي يشكل السواد الأعظم والأكبر في المجتمعات العربية.. علماً بأنه وبعد مضي كل هذا الزمن على طرح تلك الصيغة، نجد أنها ما زالت قابلة للحياة وللمستقبل، لكن وفق معطيات جديدة، وآليات عمل جديدة لا تنفي الآخر، ولا تصادر التعددية السياسية الحزبية حتى إن لم تأخذ هذه التعددية بصيغة ما من صيغ التحالف.. عـلاوة علـى كون إدخـال العسكر اليـوم فـي العملية السياسية ليس مقبولاً، والتجارب أثبتت ذلك، فليس كل الجنود هم جنود (الضباط الأحرار) ولا كل القيادات العسكرية هي قيادات مثل وعي وإدراك واستيعاب جمال عبد الناصر أو رفاقه الذين قادوا ثورة 23 يوليو / تموز الناصرية.
ولكن ما يجب قوله وإبرازه أيضاً هو إدراك عبد الناصر باكراً لأهمية ودور الرأسمالية الوطنية غير المستَغِلَّة، فهي قطاع هام من قطاعات الشعب، ولابد من إعطائها دورها الوطني دون السماح لها بالاستغلال أو السيطرة على مقدرات الناس (الغلابة) وقد كان عبد الناصر دائماً وأبداً يؤكد على أن الرأسمال المقصود هو غير المستغل وغير الناهب لخيرات الشعب، وغير المتحكم بلقمة العيش، وغير المتحالف مع الاستعمار الأجنبي، أو من يستقدم المحتل الخارجي ليكون شريكه أو ربيبه في الحكم والسيطرة.
إذاً وفي الميثاق كانت المحددات الأساس لديمقراطية يريدها عبد الناصر معبرة عن جموع الناس، وغير مستوردة من الخارج أساسها يعتمد على صيغة تحالف قوى الشعب العامل، وترتكز على الوحدة الوطنية التي يصنعها “التحالف لهذه القوى الممثلة للشعب هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب، والدافعة لإمكانيات الثورة والحارسة على قيم الديمقراطية السليمـة”.


وهذه الديموقراطية – حسب الميثاق – ضماناتها هي:
1 . التنظيمات الشعبية.
2 . سلطة المجالس الشعبية المنتخبة وهي سلطة يجب أن تتأكد باستمرار فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية.
3 . جهاز سياسي جديد داخل إطار الاتحاد الاشتراكي العربي يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها.
4 . جماعية القيادة.. وهي العاصم من جموح الفرد وتأكيد للديموقراطية على أعلى المستويات كما أنها – حسب الميثاق – ضمان للاستمرار الدائم المتجدد.
5 . النقد والنقد الذاتي من أهم ضمانات الحرية.
6 . ملكية الشعب للصحافة واستقلالها عن الأجهزة الإدارية.
ويخلص الميثاق إلى القول: “أن العمل الديموقراطي.. سوف يتيح الفرصة لتنمية ثقافة نابضة بالقيم الجديدة، عميقة في إحساسها بالإنسان صادقة في تعبيرها عنه، قادرة بعد ذلك كله على إضاءة جوانب فكره وحسه وتحريك طاقات كامنة في أعماقه خلاقة ومبدعة ينعكس أثرها بدوره على ممارسته للديموقراطية وفهمه لأصولها وكشفه لجوهرها الصافي النقي”.
وهنا لابد من وقفة مع مسألة تحويل ملكية  الصحافة إلى القطاع العام ومن ثم استقلالها عن أجهزة الدولة، وهذا على أرض الواقع كان صعب التحقيق، حيث كانت هيمنة الاتحاد الاشتراكي العربي على الصحافة وفي كثير من الأحيان عائقاً باتجاه الديموقراطية ولم تكن في التطبيق حالة صحية  حيث هيمن الاتحاد الاشتراكي كلياً على الصحافة، ومع أن الاتحاد كان ممثلاً بشكل من الأشكال لقوى الشعب العاملة، وكان يسمح لألوان أخرى كثيرة في البحث والكتابة والتنظير داخل أقنية الإعلام، والصحافة التابعة للاتحاد الاشتراكي، حتى لو كانت مخالفة لرأي عبد الناصر، أو لرأي الحزب.. إلا أن ضمان ذلك في المستقبل وفي ظروف أخرى وفي ساحات أخرى لم يعد مقبولاً ولا ممكناً.. ومثالنا يتجسد عبر ساحات عربية أخرى كسورية أو العراق أو الجزائر  وهو دليل واضح على ذلك.

الديموقراطية كضرورة وحركة نضج
تعتبر الديموقراطية حركة نضج وتقدم في الوعي البشري وفي تشكل المجتمعات الإنسانية، كما أن الديموقراطية ليست لباساً نستعيره أو زينة نتزين بها لنقول هل تصلح لنا أو تليق..  بل الديموقراطية في المفهوم الناصري هي الطريق الذي لا سبيل للخروج لمجتمعاتنا من حالة التفتيت والتخلف والعجز إلا به، وهل من حياة كريمة يمكن أن تعيشها شعوبنا إلا في ظل دولة للحق والقانون تقوم وتتأسس على مجتمعات مدنية قائمة بذاتها، وتسوسها روح المواطنية والمساواة وقيم الحرية وحقوق الإنسان، وهل يمكن لنا أن نتقدم كعرب وأن نقوى وننهض ونتعامل مع الحداثة وروح العصر، بغير الديموقراطية؟ وهذا ما أكده الدكتور جمال الأتاسي في أكثر من مطرح، وهو الشخصية الناصرية المعروفة، والذي حمل راية الديمقراطية مخرجاً لابد منه ولا مناص عنه.. وهناك الكثير من مفكري الناصرية وباحثيها توقفوا عند مشكلة الديموقراطية على أنها ليست مشكلة عصرية، أو مشكلة استحدثت مع  تناقضات العصر الحديث بل نجد أن حقائق التاريخ تؤكد أن مشكلة الديموقراطية بدأت مع أول ملمح لانقسام المجتمع إلى فئات وطبقات على قمتها أقلية حاكمة تمتلك الثروة، وتمتلك معها وبقوتها السلطة.. إن قضية الديموقراطية تشغل بال الإنسانية منذ القدم، وتختلف النظرة تجاهها من مكان إلى مكان.. ومن زمان إلى زمان ولكل مجتمع – مهما كانت درجة تطوره – موقف من قضية الديموقراطية يمكن استخلاصه من شكل السلطة القائمة في المجتمع وأهدافها ووسائل أجهزتها.. وهو ما أكده محمد عبد الحكم دياب الذي انبرى للقول: أن الدكتاتورية هي المضمون الحقيقي للديمقراطية في ظل الرأسمالية التي برزت وتمت تحت مظلة الليبرالية .. وأثبت أن الشعوب التي وقعت تحت نير الاستغلال والاستعمار فقدت تحت دعوى الحرية والديمقراطية – كيانها- وحرمت من ممارسة حياتها الطبيعية وأصبحت أجزاء ملحقة بالدول الاستعمارية وتحكم بتعليمات من الوطن الأم أو ممثل الوطن الأم.
وإذا كان الباحث (دياب) يرى “إن تجربة الأحزاب المتعددة كانت أليمة ومرّة حيث كانت هذه الأحزاب تعبيراً شكلياً عن الديمقراطية الغربية”. فإن التطور الطبيعي للفكر الديمقراطي في الناصرية والعالم أجمع يفترض بالضرورة إعادة النظر بهذه الحيثيات، وبالتالي، القبول بالمسألة التعددية السياسية والحزبية، ومن ثم الاعتراف بالآخر وفق معطى حديث وعصري حتى لو كانت تجربته مشوبة بالأخطاء، وموسومة بالفعل الشكلاني للمسألة، فقد أضحى موضوع إصدار قوانين للتعددية الحزبية في بلداننا العربية ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، وراحت الديمقراطية تتجذر في الواقع العربي، وفي إطار الفكر القومي الناصري بحد ذاته بحيث لم يعد قابلاً للحياة أي تفكير لا يقبل بالتعددية الحزبية، ولا يستوعب المتغيرات الحياتية المعاشية والسياسية للبشر والتي طالنا نحن العرب منها الكثير.

الديموقراطية واللحظة التاريخية
لأن مفهوم “الديمقراطية مطاط وغير مرئي” حسب بعض التنظيرات، وهـو كما يبدو غير محدد بأطر، فهو يختلف كما يؤكد (علي صبري) حسب رأي المرء الشخصي أو انتمائه الفكري، وبالتالي يمكـن تعميم المفهوم دون تحديـد مرئي.. ويتابع علي صبري قائلاً: “إننا وبعد مرور سنوات طويلة على قيام الثورة نقوِّم تجربة مجردين أفكارنا وتحليلاتنا من الظروف الموضوعية والزمنية التي كانت سائدة قبل ومنذ وأثناء وجود الثورة”.
وعلي صبري هنا ينقد بعض التحليلات غير الموضوعية التي تنسى اللحظة التاريخية، وتحاول أن تقيمّ التجربة الديمقراطية الناصرية من خلال سحبها إلى لحظته الزمنية هـو، حتى لـو كان هـذا المقيِّم يعيش بعد الثورة بأربعين أو خمسين عاماً .. وهذا خطأ تاريخي يجر العملية الديمقراطية الممارساتية خارج إطارها الزمني، بل بعيداً عن ظروفها المحيطة، والعوامل الداخلية والخارجية التي رافقتها أو واكبتها ضمن لحظة زمنية، عبر لحظاتنا هذه، بل عبر حالة افتراق وتضاد مع مجمل تلك المرحلة التاريخية بقضها وقضيضها.
إذاً لابد من النظر – أثناء تقييم الثورة الناصرية في مسارها الديموقراطي – إلى بداياتها وكيفية صعودها حيث واجهت الثورة في بدايتها مؤامرة قادتها الأحزاب القائمة عندما اتحدت وكونت جبهة باسم الديمقراطية، تحالف في هذه الجبهة أقصى اليمين وأقصى اليسار، مستخدمين محمد نجيب الذي لم يكن من الضباط الأحرار – حسب قـول علي صبري – والتـي سميت بأزمة مارس/آذار 1954.. وفعلاً تجمعت جموع هذه الأحزاب في ميدان عابدين محركين الجماهير باسم تأييد محمد نجيب ضد مجلس قيادة الثورة .. وفي مواجهة هذا الوضع قامت هيئة التحرير ليس كحزب بل كتجمع جماهيري يواجه المؤامرة ونجحت هيئة التحرير وحققت أهدافها.
ومن الواضح أن عبد الناصر كان قد توجه باتجاه الفكر التعددي، وخاصةً بعد هزيمة /1967/ لكن المعارك المتتالية التي واجهها وواجهتها الثورة الناصرية عرقلت مسيرة ذلك التوجه، فكانت معارك عبد الناصر تتوالى تباعاً أزمة مارس /1954/ إلـى الاحتلال البريطاني ومـن ثم الاستقلال سنة/1956/ ثم حرب السويس/1956/ وبعدها الوحدة /1958/ ومن ثم الانفصال والقوانين الاشتراكية/1961/ وبعدها هزيمة /1967/ وحرب اليمن، وإعادة بناء القوات المسلحة وحرب الاستنزاف المعروفة، وبناء الاقتصاد والصناعـة.. وحسب الباحثين فقد خاض عبد  الناصر ثماني معارك هامة في خمسة عشر عاماً أي بمعدل أكثر من معركة كبرى لكل سنتين.. وهو فعل ملموسي  يساهم في تأخير الممارسة التعددية الديموقراطية بمعناها الحديث والعصري والذي عمل عبد الناصر على إرساء بناءاته بشكل حقيقي بعد عام /1967/ وخاصـةً فـي عام /1969/.
يرى الدكتور عصمت سيف الدولة أن موقف “ثورة 23 يوليو المتطورة من الديموقراطية السياسية إلى الديمقراطية الاجتماعية خلال الفترة من/1957-1967/ احتفظت بكل ما كان مميزاً للديموقراطية السياسية وأهمه التمثيل النيابي عن طريق الانتخاب الدوري والاقتراع العام السري المباشر، ولكن أضافت المضمون الاجتماعي إلى الديموقراطية السياسية، كما غيرت في وظيفة الدولة وغيرت في مفهوم الشعب إذ دخلت الظروف الاجتماعية المتفاوتة والمتعارضة والمتناقضة في بعض الحالات، في تحديد من هو الشعب صاحب الحق السياسي في الإسهام في اتخاذ القرارات العامة”.
وإذا كانت الناصرية لم تأخذ بالأشكال الشائعة للديموقراطية الغربية إحساساً منها بأنها لا تحقق الحرية الكاملة للشعوب المتخلفة ولأنها في النهاية تؤدي إلى دكتاتورية الطبقة المستغِلَّة، ولم تأخذ كذلك بفكرة “البروليتاريا” لأنها أداة توصد الباب أمام التلاحم العضوي بين الاشتراكية والديموقراطية، بل أخذت بصيغة الاتحاد الاشتراكي العربي كإطار لتحالف قوى الشعب العاملة، وأبقى على الخلافات والتعارضات الثانوية بين جموع الناس التي يمكن حلها من خلال مؤسسات التنظيم ومن خلال الحوار الديموقراطي كأساس للعمل السياسي.

عبد الناصر والحرية
انطلاقاً من كون الديموقراطية هي الممارسة الأدواتية لمفهوم الحرية، حيث لا يمكن أن يمارس العمل الديموقراطي المباشر إلا من يؤمن إيماناً راسخاً بحرية الشعوب ودورها في التاريخ وفعلها الحضاري فقد آمن عبد الناصر بانتصار الحرية كما آمن بعـدم تجزئتها حيث وقف فـي بور سعيد وفـي /22/ من كانون أول/1964/ ليقول: (نحن نؤمن بحتمية انتصار الحرية ونؤمن بأن الحرية غير قابلة للتجزئة بمعنى أننا لا نستطيع أن نؤيد الحرية في مكان ولا نؤيدها فـي مكان آخر.. وواجبي أن أؤيد الحرية في كل مكان وواجبنا كشعب قاسى من الاستعمار وقاسى من العدوان أن نستنكر العدوان في أي مكان).
وليس بعيداً عن متناول أي باحث في الموضوع الديموقراطي لدى عبد الناصر الشعار الكبير والشهير الذي يقول فيه عبد الناصر: “إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديموقراطية”، وهو ما يتأسس عليه الكثير في مفهوم عبد الناصر للحرية وأداتها الممارساتية الديموقراطية، وبالتالي تحرير إرادة الشعوب العربية بالتغيير الديموقراطي المنشود، وهو ما ركزت عليه جموع الأمة العربية، وبالطبع فإن هذا يكون عندما يُقرأْ التاريخ أو يكتب بوعي وإنصاف – حسب تعبير حسنين هيكل – ومن غير تحريض أو تزوير، وهو الذي أكد عليه جمال عبد الناصر في آخر خطبة له قبل رحيله عندما قال: “وليست تعنينا في ذلك شهادة أي فرد وإنما تعنينا في ذلك شهادة التاريخ مبرأة من العقد ومن الأهواء، ومن التحزب والنسيان”.
وسنظل على هذا الأساس ومن هذا المنطلق نمسك ونتمسك بمشروع عبد الناصر النهضوي  القومي الديموقراطي وما قدم من مرتكزات لنهوض الأمة وتقدمها، وكذلك من أجل تجديد هذا المشروع ومع كل القوميين الديمقراطيين من ناصريين وغير ناصريين، ممن يحملون مثل هذه التطلعات لتكوين الفعل الديموقراطي الذي يحمل هذا المشروع وأداته التي تدفع على هذا الطريق.

خاتمـــة
تتجذر المسألة الديمقراطية بطابعها الناصري، وممارستها الميدانية في الفكر الناصري، عبر العودة بالأمة إلى هويتها القومية بروحها الديمقراطية، كرابطة تاريخية وثقافية وكإرادة في العيش المشترك كمواطنين في وطن حر ومستقل، وكعملية توحيد ديمقراطي لمجموعات وشعوب الأمة. كما ركز على ذلك  الراحل جمال الأتاسي – إنما يعطي إيجابيته من حيث أنه لا يعني بأية حال العودة بالأمة إلى خصوصية أثنية أو مذهبية، أو إيديولوجية، ولا إلى عصبية عنصرية، أو نزعة للتمايز والتمييز بين البشر، وهو الرد كذلك على كل تلك الانحرافات الإنسانية، التي أرادت تجاوز القومية أو التجاوز عنها، في نزعات (كوزموبوليتية) رأسمالية وليبرالية، ما لبثت أن تحولت إلى علاقات استعمارية وإمبريالية، أو التي أرادت التجاوز إلى أممية شيوعية فوقعت في الشمولية والاستبداد، إلى أن عادت وتفجرت أقواماً وقوميات، لم تجد بعـد الطريق إلـى إعـادة تشكلها الديموقراطي .. وحقيقةً فإن الوجه الإيجابي لا نراه اليوم إلا في تلك التي تؤسس لعلاقات وروابط ديموقراطية ومتكافئة بين الشعوب.. ولعل اليقظة الديمقراطية في المجتمعات العربية وكذلك العالمية اليوم التي خرجت أو هي تسعى لأن تخرج من تحت وطأة أنظمة الحكم اللاديموقراطي، ليست مجرد إيديولوجية بديلة تطرح عوضاً عن تلك التي أفلست وأوقعت شعوبها في النهاية تحت كابوس الاستبداد والعوز الاقتصادي والتنموي، إنما اليقظة الديموقراطية هذه هي العودة إلى التربة الاجتماعية والشعبية وإلى التنظيم الاجتماعي والوطني الذي يصنع مجتمعات الحداثة وما بعد الحداثة، كما يصنع التقدم والتطور، ويطلق المبادرات الحرة للناس والشعوب.
إن تعميم المطالب نحو الديموقراطية الآن، وتطلع الشعوب إلى دولة للحق والقانون وإلى مجتمعات مدنية مستقلة وقائمة بذاتها، يتمتع فيها المواطنون بكل المساواة في المواطنة وحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية معاً، هذا هو الإيجابي الذي يضع المجتمعات الإنسانية على طريق الحداثة والتقدم إذ أنه ليس التقدم بامتلاك التكنولوجيا المتطورة من نووية وسواها، كما يحصل في بعض دول العالم اليوم، إنما هو بوجود الإنسان الحر المبدع الذي يصنع هذه التكنولوجيا، وعلينا جميعاً أن ندرك أن الناصرية لم تخرج عن ذلك ولا يجب أن تخرج، فكان عبد الناصر دائماً وعلى طول المدى يركز على دور الإنسان وحرية الإنسان، ومن يعتقد أن الناصرية بعيدة عن الديموقراطية وحرية الفرد والجماعة يقع في الوهم والمغالطة.. فالديموقراطية ما وجدت صياغة لنظامها السياسي والاجتماعي إلا في إطار الوطن والأمة ودولة الأمة.. التي طالما نادى بها عبد الناصر وعمل من أجلها.. إن الديموقراطية هي التي يمكن أن تعطي الرصيد الإيجابي لليقظة القومية وللتشكل القومي للأمم والمجتمعات ،خاصة في ظل القمع والعسف الذي تعاني منه شعوب الأمة على يد جلاديها ومستبديها.
المصدر: “الوحدوي الثقافي”/ 22 شباط/ فبراير 2010/ نشر بالتزامن مع موقع “ملتقى العروبيّين.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

تعليق واحد

  1. للمره المليون النخب الفكريه ترى في تجربه عبدالناصر تجربه ديمقراطيه وهي ابعد ما تكون عن ذلك
    اولا عبدالناصر والضباط الاحرار اتوا بانقلاب وظلوا متمسكين بالسلطه برغم الهزائم وادى هذا الوضع الى الواقع السياسي المصري المتهالك باستيلاء العسكر على السلطه حتى الان والذي اسس له بلا شك عبدالناصر ورفاقه
    ثانيا لازالت النخب تدعو الى تأليه الفرد وهي سمه المجتمعات المتخلفه المنكسره هل يستطيع احد ان يخبرني من تؤله المانيا او امريكا بينما نجد الهه في روسيا والصين وكوريا الشماليه والعالم العربي وطبعا الفكر الديمقراطي في بون شاسع بين الطرفين
    ثالثا فكر عبدالناصر وان اصاب او اخطأ -وانا اراه مخطئا بالمجمل- اصبح قديما باليا من المعيب ان نستشهد به لا الزمان زمانه ولا المكان مكانه ولننظر الى ما الت اليه مصر وسنعرف ما انتح هذا الفكر
    رابعا واخيرا كفانا تغني بالماضي وهذه سمه العرب عموما ولننظر الى مستقبل لننسف مراحل التخلف التي اخرتنا عقود عن ان نكون شعوبا محترمه تحترم نفسها اولا لتستطيع انتاج نموذج ديمقراطي حقيقي يليق باحترامها لنفسها ولنستحضر من الماضي الشي الذي ينفعنا في التقدم وليس يشدنا الى الخلف
    تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى