مقالات

عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…!


خاص “المدارنت”/
ينتظر العالم الإسلامي شهر رمضان المبارك للتعبّد، والرجوع إلى الله، فتزدحم المساجد، ويصبح لها طعم آخر، وتكثر أعمال القربى والتقرّب إلى الخالق سبحانه.
أما في بلادنا فإن المواطن المسكين، وعبيد الزعامات الفاشلة، لا ينتظرون رمضان ليصوموه، ويؤدوا رُكْنًا من أركان دينهم الحنيف فقط، بل أيضًا من أجل حُضور ما أسموه زورًا وبُهْتانًا «مَوائد الرَّحْمن»، والأهم من ذلك الحصول على «الكرتونة».. نعم، الكرتونة التي ربطهم بها من رقابهم، هؤلاء الذين أصبحوا في غفلةٍ من الزمان «زُعماء»، كما يُربط العقال في عنق البهائم… ولا أدري من أبدع هذه الفكرة الجهنمية، القاضية بربط المواطن الفقير المُحْتاج بـ«الكرتونة»… فهل من يدلنا عليه لكي نَعمده، ونصنع له في كل مدينةٍ وقريةٍ تِمْثالًا يَليقُ به وبإبداعه… عاشت الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…
إنهم حقا ساسة مبدعون، أبدعوا في كل تصرفاتهم وأفعالهم، وحتى في عُهْرِهِم… أبدعوا في نَهْبِ أموال الدولة بطرقٍ خفيت على إبْليس، وفي الاسْتيلاء على ودائع المُواطنين بهدوءٍ وسَلاسةٍ، وأساليب لم تخطر على بال كل مافيات العالم.. أبدعوا في اختراع الوسائل والطرق من أجل استعباد الشعب وإذلاله بكل شرائحه.. والمصيبة أن هذا الشعب العظيم يُصفّق لهم، ويتقاتل مع بعضه من أجلهم، ولو ترشحوا للانتخابات لانتخبهم مَرَّات ومَرَّات…! عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…
لقد أصبح الشعب لا يسأل عن المشاريع، ولا عن الماء، والكهرباء، والدواء، والاستشفاء، وغلاء المعيشة، وتلاعب الصَّيارِفَة بالدولار، بقدر ما يسأل عن الكرتونة وما تَحْويه، وأيّ كرتونة من كراتين الزعماء أفضل من الأخرى… مجتمع من العبيد، والعبد يقبل فتات ما يرميه له الزعيم، سَيدُه ووليُّ نِعْمته…! دوّامةٌ دخلها شَعبٌ بِرُجْليهِ فَرحًا، مُرْتاحًا لِدُخولها، مع أنه في الواقع لا يُعْجِبُه العَجَب… شَعْبٌ أصبح لا يُفكر بالمُسْتقبل، ولا بغده ومستقبل أولاده.. تقرأ علامات البُؤْس والحُزْن في عيون وملامح أغلبه، وبالأخص قطيع المُصفّقين المُهَوْبرين. المهم بالنسبة له هو الزعيم…! عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…
كانت الناس يومًا، إذا ما وزّع أحد السَّاسة منشورًا سياسيًّا فصَّصوهُ كلمةً.. كلمة.. وأعادوا قراءته مرَّات.. ومرَّات.. وتناقشوا فيما بينهم حول مُحْتواه ومَضْمونه ومُؤدَّاه. وكان البعضُ يقوم علنًا بتمزيقه وعلى الأشْهاد، مُعْلنًا غضبه ممّا ورد فيه، ومن عباراته التي لم تقل الحقيقة، ولم تتناول مشكلات الشعب والوطن بوضوح. بل كان بعضهم يقف على كُرْسِيّ أمام باب محله، أو في وسط السوق، معلنًا اسْتياءه من البيان، ومن السياسي الذي يقف وراءه، ومن أزْلامه ومُؤَيِّديه، مُردِّدًا وبأعلى صوته «حاجه تضحكوا علينا…!»، مُدْليا بدلوه بأقسى العبارات، مُعبرًا عن شريحةٍ كبيرةٍ من المواطنين..
لقد كان ذلك حقيقةً مُعاشةً، قبل تدْجين الناس، وفَبْركة مُجْتمع العبيد.. أعني قبل عصر الكرتونة، وزعامات الكراتين… ولهذه الأسباب، ولغيرها أخرى كثيرة، كنا نفتخر بمدينتنا طرابلس (لبنان)، عروس المتوسط، ومصنع النضال والمناضلين، ووجه العروبة الناصع… عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…
لقد بدأ العمل على شباب المدينة وأهلها للدخول في زُمْرة مُجْتمع العبيد، مع بداية إحكام المخابرات السورية قبضتها على المدينة، وفرض الوصاية على الوطن، وممارسة القتل والقمع والتصحير.. لكونها لا تُطيق تعدد الألوان والأطياف، ولا تحتمل لونًا آخر غير لونها. وعندما بدأت الزعامات السياسية الجديدة بالظهور والعمل، كانت كل الظروف مهيأةً بالنسبة لها، حيث وجدت أمامها مُواطنًا قد تمَّ مَحْوُ شخصيته وكرامته، وأصبح مِسْخًا، وعلى استعداد للقبول بالإهانة، ويُردِّد: أمرك سيدي…! والأهم من ذلك، أصبحت « المَذّلة »، بالنسبة له وجْهَة نظر… فخرج عندها إلى العلن، وظهر مُجتمعٌ جديدٌ بكل مُكوِّناته ومُقوِّماته، إنه «مجتمع الكرتونة»، الذي يُخفي وراءه مُجْتمعًا تافِهًا فِكْريًّا وسياسيًّا ونِضاليًّا.. يتباهي بتعليق أكبر صورة لزعيمه، وبأكبر مسيرة “موتوسيكلات” لزعيمه، وبأكبر… وأكبر… وقد نسي لقمة عَيْشِه، ومُستقبل أبنائه وتعليمهم وطبابتهم، وحتى مُستقبل وطنه ومدينته… عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…


بعد الحرب، أعيد بناء كثير مما تهدم في الوطن، وصرفت المليارات للتعويضات على المتضررين.. وبعض اللبنانيين المدعومين قبضوا هذه التعويضات أكثر من مرة.. مع العلم أن كثيرًا منهم غير مُتضررين أصلًا، ولكن زعيمهم أراد لهم أن يقبضوا، وفرض أسماءهم على اللوائح بالقوة، فقبضوا… إلا في طرابلس التي تعرضت للدمار والخراب مَرَّات ومَرَّات… ومع ذلك لم يرَ أهلها من الدولة لا قرشًا أبيضًا ولا أسودًا… وزُعماؤها يديرون لها ولأهلها ظهورهم، ويفتشون على مصالحهم الخاصة، وكيفية استعباد شباب المدينة أكثر…
والحق يقال، أن زعماء المدينة الجُدُد ورجالاتها، لم يَعِدوا الطرابلسيّين بمشاريع إنْمائية، وإيجاد فرص عملٍ شريفةٍ لهم، ولا بتحسين أوضاعهم البائسة، ولا بمدارس ومستوصفات ومستشفيات وتعبيد طرق الخ… ولا بأيّ بشيء من هذا القبيل.. سوى أن كبيرهم، قال يومًا وعلى الأشهاد: «لن يجوع في طرابلس أحد…!». ولهذا نُردِّد: عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…
ليت الزعامات أصحاب «الكراتين والموائد»، وبالأخصّ، أولئك الذين يضعون أسماءهم عليها، وعلى أكياس الخبز التي يُوزِّعونها في رمضان.. ليتهم يضيفون إليها صورهم، لكي نشعر أن ابتساماتهم ترافقنا، فنتذكر أغنية: أبو ضحكة جنان…! ولكن تذكروا قبل ذلك، أن أسلافكم كانوا يَسْتحون أن يقال عن أحدهم أنه تصدق بكذا.. نعم كانوا يَسْتحون، ويَخافون من الله سبحانه، ويَتحاشون غَضَبَه، لأنه كان عندهم من الرُّجولة والمُرُوءَة والشّكيمة ما يَكْفي… وكانوا يلتزمون بحديث السبعة الذين يُظلهم الله بظله، يوم لا ظلَّ إلا ظِلّه، والذين من بينهم «رجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخْفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يَمينه». ويبدو أنكم تفضلون ظِلّ أموالكم التي لن تأخذوها معكم، بل ربما لن يجدوا لكم قطعة قطن لكي يضعوها لكم في “البتاع”… نعم في…!
وحتى لا أكثر عليكم بالأحاديث النبوية، وأتهم بالإسلاموية والتطرّف، وغيرها من التهم الجاهزة والمُعلبة، فإنني سوف أضرب لكم مثلا فرنسيًّا، ينتمي إلى أمكم الحنون، يقول: «عوض أن تعطي الفقير سَمَكة، أعْطِهِ صَنّارةً، وعلّمه كيف يصطاد»، وهنا لب المُشكلة.. لأنكم بذلك سوف تُقدمون للمواطنين عملًا، وبالتالي، سوف تفقدون عبيدكم رُوَيْدًا.. رُوَيْدًا… إذًا: عاشت الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…
وإن كان من أمْنية أتمناها ككثيرٍ غَيْري من أبناء جيلي، هو أن نرى المُواطن قريبًا، وعلى الرغم من حاجته الماسَّة، وبُؤْسه الذي أوصلتموه إليه، يدوس على «الكرتونة» بأقدامه، ويرفع صوته عاليًا، مطالبًا بِحقوقه، وبعملٍ شريفٍ يَليقُ به وبإنسانيته، وبتقاسم خيرات الوطن ومشاريعه، كغيره من أبناء وطنه.. وأن يُحاسب زُعمائه أصحاب شعار «ما بيخلّونا»، ليس عبر صناديق الاقتراع فقط، بل في الشارع، والشارع هو الحَلُّ.. ولا حَلَّ سِواه… وينهي بالتالي عصر زُعماء «الكرتونة»… وإلا فلن يتغير شيء في هذا الوطن، ولن يكون لهذا الوطن مُسْتقبل، وسوف يبقى سائدًا الشعار المقدّس: عاش شعب الكرتونة… عاش زعيم الكراتين…

الباحث خالد بريش/ باريس
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى