تربية وثقافة

همهمات في رواية عزيز للروائي الإرتري هاشم محمود..

يبات علي فايد/ السودان

“المدارنت”/ استهلال: مؤخرا، انطلق الروائيون الإرتريون بصورة جيدة (وإن كنتُ أراهم مقلين كثيرا، مقابل ما ينتجه غيرهم من القصاص والرواة) في نشر منتجهم الأدبي الروائي، وإنه لشأن أحمده كثيرا، مهما تكن قيمة تلكم الأعمال الفنية والأدبية.

ورجغة إرترية
بينما كان الكتاب الإرتريون يسعون في التأليف، والتدقيق والتحرير والمراجعة، وبينما هم في رحلة معاناتهم طلوعا ونزولا في سلالم دور النشر والتوزيع، وضربهم أخماس بأسداس في كيفية مشاركة تلكم الدور تكاليف الطبع والنشر والتوزيع لضيق ذوات أيدي جلهم، وأيدي ملاك دور النشر أولئك أيضا في زمان أضحت فيه مبيعات الكتب أقل من مبيعات الساندوتشات والعصائر في معارض الكتب العربية؛ ظلت هناك فئة من الإرتريين ليس لها حظ من العمل إلا مقارعة الكتاب أولئك، من وراء كيبات جوالاتها، وكيبوردات حواسبها، محاولة ثنيهم عن التأليف والطباعة، مثبطين ومخذلين؛ لكن انطلق قطار الرواية الإرترية مجلجلةً عجلاته التي أخافت من أخافت، وأحزنت من أحزنت، فأكثر ما يخيف الخفافيش أولئك الاستنارة، ويقينا فإن جلجلة تلكم العجلات أفرحت الكثير الكثير من الإرتريين، وأبهجتهم، وأضحكتهم طربا.
نعم، بينما كان يجتهد بعضهم في تلميع صورة الرئيس تأريخا، كان الروائيون الإرتريون يؤرخون لواقع إرتريا روايةً، بطريقتهم ورؤيتهم الأدبية والإبداعية التي تسطر ما لا يمكن أن تسطره أقلام المؤرخين. ويقيني أنه لولا الرواة والشعراء لضاع الكثير المثير من الواقع الاجتماعي الإنساني الذي يتحاشاه المؤرخون المؤدلجون في الغالب، وإن أصدق التاريخ هو ذلك التاريخ الذي ينقله الرواة والشعراء! نعم، إن الرواية الإرترية ترفض إلا أن تكون ثورة شعبية كبرى ضد سجانها مثلها مثل كل آداب الأمم الواعية. أجل إنها الواقعية في الأدب الإرتري، تتعرض لسخرية الأقلام المأجورة، والأحبار المستغفلة، لكنها تمضي قدما مستهينة بكل الأقزام.

عزيزان
من مصادفات القدر أن برز في مجتمع الإرتريين وعلى وسائل التواصل الاجتماعي قُبيل هذه الرواية، عزيزٌ أوَّل، دعا إلى تعرية أدوات النظام وبيادقه، وفضح فظائعهم، إنه الأخ الكريم/ عزيز هبتيس (Aziz Habties)، شكر الله سعيه. والحقُّ فإن هذا دأب الكثير من الناشطين الإرتريين، وإن كانت طريقة عزيز المباشرة في صفع تلكم الوجوه الكالحة فاعلة جدا، ثم برز إلينا عزيزٌ آخر في رواية عزيز، والتي سرد بعضا منها بطلها، الذي عاش ذلكم الاختفاء القسري والحبس الانفرادي وقاسى الظلم والاضطهاد حقيقة لا تخيُّلا، أو تصورا، لا لشيٍ حسد فئة تافهة تمضي في تنفيذ مخططاتها بعيدا عن معايشة الواقع، وخدمة الوطن، حيث أمضى عزيز بالفعل، اثني عشر عامًا و خمسة أشهر و خمسة أيام و تسع ساعات، في سجون أدوات الغاشم المبتذلة. ليفاجئنا الروائي هاشم بهذا العمل الكبير، لهذه الصورة المتكررة في حياة الأحرار الإرترريين، وما عزيز في هذا العمل إلا كل عزيز رفض الاستسلام لآلة القمع تلك، لتكون عاقتبه تلكم الأحداث.

الروائي هاشم محمود
الذي يجهله الكثير من المجتمع الإرتري هو أن الأخ الكريم، هاشم محمود، له القدح المعلى في نشر الكثير من الأعمال الأدبية الإرترية التي رأت النور بفضل دعمه، ولست هنا بصدد تعديد فضله (جزاه الله عنا خيرا)، وأستطيع مرتاحا اعتزازا بهاشم استعارة قول المتنبي:

لَهُ أَيادٍ إِلَيَّ سابِقَةٌ
أُعَدُّ مِنها وَلا أُعَدِّدُها

يُعطي فَلا مَطلَةٌ يُكَدِّرُها
بِها وَلا مَنَّةً يُنَكِّدُها

وإن ما يفعله الروائي هاشم لمما هو مناطة به الدول، فبارك فيه، وجعله قدوة يقتدي بها القادرون على نشر الأعمال الأدبية للذين ينتظرون نشر أعمالهم، ويقف بينهم وبين ذلك ضيق ذات اليد، ولعلي أفرد لهذا الأمر (أمر الدعوة إلى طباعة المؤلفات) مقالا.
أما ما يخص أعمال هاشم الأدبية، فهاشم مكثر بحساباتنا، رغم عدم تفرغه للكتابة، ولقد رأيت من يستكثر منتج هاشم الأدبي، ويحسبون تأليفه خصما عليه، وأولئك يجهلون أن الجاحظ ألف ما يربو على 360 مصنفا، وفي العصر الحديث لإسحاق عظيموف المتوفي في عام 1992م أكثر من 500 كتاب، هذا فضلا عن رسائله التي بلغت 90 ألف رسالة وبطاقة.
أما هاشم المحسود على إنتاجه الذي رآه الحساد كثيرا فقد بلغ للتو العمل الثامن.

اللوحة بريشة التشكيلي صلاح الدين إدريس

أهمية رواية عزيز
مضى الروائي هاشم محمود في عمله الأخير (عزيز) مضيِّا كبيرا في نُصرة مجتمعه، وشعبه (كعادته)؛ إذ يؤرخ لبعض وقت من حقبة حكم يصعب مقارنته بغيره وحشيةً، لا أقول حقبة حكم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، فقد قضى مصاص الدماء وثلته الكثير من رجال تلكم الجبهة الذي خالفوه الرأي في الحكم المستبد، ولكن أقول إن هاشم، أرخ لحقبة من حقبة الاستبداد الأفورقية بإرتريا، وعرَّى الكثير من أدوات وبيادق تلكم الدولة الغاشمة في روايته عزيز.
تأتي أهمية رواية عزيز من تفردها بين الروايات الإرترية، وذلك بافتراعها جادة غير مطروقة، إذ يفتتح الروائي هاشم محمود بابا جديدا، تماما كما كان شأن الروائي العظيم أبوبكر كهال بافتراعه أدب المهجر في إرتريا في روايته تايتنيكات أفريقية، وإنه لسبق يستحق عليه الإشادة والتقدير. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الرواية أقرب إلى الواقع، بل هي بعض واقع عاشه بطلها ازدادت أهميتها، فإذا عرفنا أنها احتوت على أسماء أصحاب المؤامرة الحقيقيين مثل: سلطان، وعثمان، وودي أبر، وسلمون، وباشاي، وتخستر، وقرماي، ومحاري، ومحمود، وأبرها كاسا، اكتملت أهميتها، ومضت في فضح الخفافيش كما تليق بهم الفضيحة.

السجون وسجناء الضمير الإنساني في إرتريا
الرواية من فئة أدب السجون، ولعل السجناء في العالم أجمع لهم حقوق، ومحاكمات ولو كانت صورية، ولاعتقال المناوئين لتلكم الأنظمة المستبدة مسمى معلوما هو الاعتقال السياسي، إلا في إرتريا، فإن المعتقل لا يصح أن نطلق عليه معتقلا سياسيا، إذ ليست له من حقوق المعتقل السياسي شيئا، ويمكن اختصار اعتقاله بالخطف والتغييب ليس إلا، وليعجب القارئ إن علم أن المختطف في غالب تلكم الأحوال لا يخبر ذووه بشأنه، وحرام عليهم السؤال عنه، وإن سألوا فلا إجابة لدى الدوائر الحكومية، بل ينكرون اعتقاله، هكذا يُنسى السجين السياسي في السجون دون تقديم أي تبرير لاعتقاله، أو اختطافه.

كتب موقع فرَّجت عن حال المغيَّب السياسي في إرتريا يقول:
“”فى أرتريا الأسرة والأهل لا يعرفون الخاطف ولا الجهة ولا مكان الاعتقال ولا أسبابه، ليست هنالك جهة أمنية مسؤولة حتى عن الخطف، كما لا تُوجد جهة أمنية يرجع إليها المواطن للمتابعة والسؤال، فهذه مرحلة مُتقدمة لم يصلها النظام الإرتري بعد، وكل مسؤول وقائد يُمكنه اعتقالك ووضعك بالسجن، وقد تمكث فيه سنينا دون معرفة أسباب اعتقالك! ولا تسأل عن مشروعية حماية أمن المواطن والجهات المسؤولة عنه فى الدولة؛ فالنظام الإرترى ليست لديه مؤسسات ولا قضاء ولا جهات مسؤولية، فالجهات الأمنية هى القابضة على السلطة وهي العابث بأمن المواطنين خطفا واعتقالاً كيفما تشاء ومتى! أما وصف طريقة الاعتقال فإنه غالبا ما يتم في جُنح الليل ويختطف المعتقل من وسط أطفاله وزوجته.
يتم الخطف بهمجية تفتقد لأبسط قواعد الأخلاق والقانون والإنسانية، بل تتم بوحشيةٍ مُكتملة الأركان. وهنالك قوًى أمنية مُتخصصة لهذه المهام، وتكون تلكم الاعتقالات أحيانا لأسبابٍ تافهة من قيادات الجيش، ولا تُوجد حتى محاكمات صورية لمعرفة نتيجة اعتقالك ووصف جريمتك، وعن السجون والمُعتقلات فى أرتريا فإن الحياة فيها أصلاً لا تُطاق فكيف بالسجون والمعتقلات التى يتم اختيارها بعناية لتتماشى وقٌسوة النظام وقهره واستعباده، وحسم خصومه؟! حيث تُقام تلكم السجون فى مناطق قاحلة معزولة شديدة الحرارة في حُفر فى باطن الأرض أو حاويات، هذا إضافة إلى توفير جلادين قساة لا رحمة لهم أو ضمير، يتلذذون بتعذيب الضحايا الأبرياء أولئك” انتهى حديث فرَّجت.

بعض أحداث الرواية
عزيز بطل الرواية وصاحب جل أحداثها التي تبدأ بنيته السفر إلى نيروبي لحضور مؤتمر، رُتِّب له من الدول، فهو الممثل لإرتريا في ذلكم المؤتمر، لكنه حسدًا يرمى بفرية الإرهاب لتتغير وجهته في المطار إلى غياهب سجون إرتريا متنقلا ما بينها ذائقا من ويلاتها.
ثم تمضي الرواية بلوغ الخبر أسرة عزيز، وكأي أسرة فقدت عزيزا لها نتيجة تلكم التصرفات الرعناء، تتخبط الأسرة، ولا تصل إلى عزيز إلا بعد عناء. وهكذا إلى أن تثبت براءة عزيز، فيعتذر له بعد أن قضى في تلكم السجون تلكم الفترة العصيبة. وبالتأكيد فإن أحداث قصة عزيز هي قصة مئات بل آلاف الإرتريين الذين يتسلط عليهم المتسلطون دون رقيب ولا حسيب.
تتخلل الرواية قصص لشخصيات جانبية، تصور أحداثهم بعض مآسي السجناء، الذين يلتقيهم عزيز، أو يشاهد أحداث نهاياتهم، أو تعذيبهم، وابتزازهم، وكل هذه القصص هي غيض من فيض من هموم الوطن الجريح.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى